كلما أراد الأسد تحرير الجولان، يقف السوريون عائقاً أمامه ويمنعونه بشتى الطرق من الوصول إلى ذلك الهدف الوطني النبيل، ينطبق ذلك على الأسدين الأب والابن، فبعد أن حرر حافظ الأسد مدينة القنيطرة عام ١٩٧٤، كان ينوي فتح جبهة الجولان، وبينما كان يجهز الجيش لتلك المهمة الوطنية، بدأ عملاء إسرائيل في سوريا يعكرون صفو تلك الخطة ويضعون العصي في عجلات الدبابات، فحركوا الإخوان المسلمين الذين أدخلوا البلاد في أزمة داخلية وأفشلوا خطة الأسد ودفعوه لتغيير مساره، مما اضطره لمحاربة عملاء إسرائيل ومحاربة المؤامرة وتأجيل خطة استعادة الجولان إلى ما بعد التخلص من العملاء في الداخل وتهيئة الأجواء للهجوم مجدداً على إسرائيل وإجبارها على الخروج من تلك البقعة المقدسة من الأرض السورية.
هذا هو فحوى خطاب إعلام النظام في الذكرى الثانية والأربعين لقرار إسرائيل ضم الجولان والذي يصادف الرابع عشر من كانون الأول، وخصص إعلام النظام حملة إعلامية للحديث عن تلك الذكرى الأليمة والتباكي على الجولان وكانت تحت عنوان "الجولان عائد" وقد أكدت كل فقرات الحملة إصرار القيادة على تحرير الجولان كأولوية مطلقة..
غير أن هذا النوع من التحرير الذي يؤكد عليه النظام يتم فقط بالشعارات والخطابات والأشعار والأغاني الحماسية، وبالأعمال الفنية السطحية والخطابية التي يقدمها فنانوه المؤيدون سواء عبر الفن التشكيلي أو الأفلام السينمائية أو التحليلات والمقالات والبحوث واللقاءات والحوارات مع فلاسفة وأعلام محور الممانعة والمقاومة.
ولو سلطنا الضوء على جوهر كل تلك الدعوات لتحرير الجولان لوجدناها لا تتجاوز حالة الصفقة الطلائعية التي يرددها أطفال المدارس في حضور الرفيق أمين شعبة الحزب إلى مقر اتحاد شبيبة الثورة أو منظمة طلائع البعث.
من خلال المقاطع التي بثها تلفزيون النظام، وبالعودة إلى الفيلم ذاته، سيتضح مدى الهوة الواسعة بين التصريحات والرغبات الحقيقية لكل من فواخرجي والنظام معاً، فمن يخرج هذا الفيلم ومن يسمح بإنتاجه لا يمكن أن يكون لديه أي رغبة في استعادة الجولان
ركز إعلام النظام أيضاً في إطار احتفاله بتلك الذكرى المؤلمة على فيلم أخرجته الفنانة سلاف فواخرجي وحمل عنوان "رسائل الكرز"، وقد تم إنتاجه عام ٢٠١٥، وأعاد بث مقاطع منه وفتح باب الحوار حوله باعتباره عملاً أكثر من فني، ولا سيما أن مخرجته فنانة بحجم سلاف فواخرجي، فحينما تضع فواخرجي تحرير الجولان نصب عينيها، فلا بد أن يتحرر، العائق الوحيد هو الشعب السوري الذي يرفض ذلك ويأبى إلا أن يقف مع إسرائيل ويعرقل مشروع القيادة كالعادة.
ومن خلال المقاطع التي بثها تلفزيون النظام، وبالعودة إلى الفيلم ذاته، سيتضح مدى الهوة الواسعة بين التصريحات والرغبات الحقيقية لكل من فواخرجي والنظام معاً، فمن يخرج هذا الفيلم ومن يسمح بإنتاجه لا يمكن أن يكون لديه أي رغبة في استعادة الجولان.
يبدو الفيلم مشبوهاً من أكثر من ناحية، ففي الوقت الذي كان فيه الأسد الابن مشغولاً بقتل السوريين، كان يدعم الأعمال الفنية التي تتحدث عن مشكلة أخرى لا علاقة لها بالكارثة والمشكلة الجوهرية التي تعاني منها سوريا، وكان ذلك مقصوداً بهدف تشتيت الانتباه وصرف الأنظار عن المعاناة الأساسية التي يعيشها السوري، وكذلك تسخيف الثورة السورية من خلال طرح قضية الجولان، فكما أفشل الإخوان المسلمون خطة الأسد الأب في الثمانينيات لاستعادة الجولان، ها هم السوريون جميعاً يفشلون خطة الأسد الابن حينما قاموا بالثورة بذات التوقيت الذي حدده الرئيس للتوجه نحو الجولان وتحريره. ولكن ما العمل إذا كان الشعب هو العائق وهو من تورط بالمؤامرة لصالح إسرائيل لتخليصها مما كان الأسد ينوي فعله فيها.
كانت سلاف فواخرجي تنكر طيلة السنوات السابقة على إنتاج فيلمها أن ما حصل في سوريا منذ العام ٢٠١١ هو ثورة، وتنكر إجرام الأسد وتحوله إلى بطولات وتدافع عنه في كل المحافل الفنية وغير الفنية أيضاً، لم تصدق فواخرجي كل ما كان يحدث أمام عينيها من قتل واضطهاد وتهجير من قبل سلطة اتضح بالدليل أنها لا تقل عداء للسوريين عن إسرائيل، ولكن فواخرجي صدقت فقط أن الأسد هو من يعول عليه لتحرير الجولان وأخرجت فيلمها في ذاك التوقيت بالذات..
من خلال الفوز برضا القيادة وثقتها، أصبح بمقدوره فواخرجي، -كما كثر غيرها- أن تصبح مخرجة، شاعرة، فنانة تشكيلية، محللة سياسية استراتيجية، عالمة اجتماع، خبيرة تجميل
يكشف الفيلم من ناحية أخرى عن كم الوصولية والانتهازية لدى فواخرجي الممثلة التي قررت أن تصبح مخرجة أيضاً على أنقاض المحافظات والبلدان والقرى السورية التي دمرها الأسد الذي تدافع عنه، ولم يكن لديها من مؤهلات الإخراج سوى تقربها من القيادة والتطبيل لها خلال سنوات إبادة السوريين وتهجيرهم، والمتاجرة بقضية الجولان التي اتضح تماماً زيف ادعاءات المدافعين عنها رغم أهميتها وحساسيتها كقضية أساسية لدى السوريين، ولكن ما يهم الفنانة هو أن تقتنص فرصة للإخراج والتي كان مؤهلها الوحيد لتنالها هو رضا القيادة..
ومن خلال الفوز برضا القيادة وثقتها، أصبح بمقدور فواخرجي، -كما كثر غيرها- أن تصبح مخرجة، شاعرة، فنانة تشكيلية، محللة سياسية استراتيجية، عالمة اجتماع، خبيرة تجميل، لأن الضامن الوحيد للحصول على كل تلك الألقاب هو دعم القيادة وثقتها اللامحدودة، وقد برز الكثيرون في فترة الثورة ممن كانت كل مؤهلاتهم في المواهب الطارئة التي ظهرت عليهم تتجسد في ترويجهم لرواية النظام وتماهيهم مع مزاعمه ودعم أكاذيبه..
هكذا تحرر القيادة السورية الجولان، من خلال الدعاية المخالفة للنوايا، ومن خلال التصريحات التي لا صلة لها بجوهر القناعة، فقضية تحرير الجولان مخصصة لتمجيد الرئيس بكل أنواع التمجيد، ثم لا يهم بعدها ما الذي سيحدث على أرض الواقع.
ولدعم هذا الهدف الترويجي الممجد للأسد، بذلت منظمة طلائع البعث جهودها بهمة أكبر من تلك التي وجدناها عند سلاف فواخرجي، فقامت بتحفيظ التلاميذ بعض الشعارات الرنانة بطريقة التلقين المعهودة وبأسلوب القراءة والإلقاء المفتعل والمصطنع، وعرضت أولئك التلاميذ الصغار على تلفزيونها الرسمي بمناسبة ذكرى ضم الجولان وضمن حملتها المعنونة بـ "الجولان عائد"، فأظهرت الأطفال بصورة مثيرة للضحك والسخرية وللشفقة أيضاً، وأساءت لهم بتقديمهم بذلك الشكل المعلب وتحميلهم مهمة تمجيد القيادة وتدريبهم على العيش على الشعارات وعلى لغة اليقين التي لا تستند إلى الواقع، وكان واضحاً أن هدف منظمة طلائع البعث لا يختلف عن هدف سلاف فواخرجي، فالمهم أن ترضى القيادة وليذهب الجولان إلى الجحيم..
وبعيداً عن الرفيقة الطليعية سلاف فواخرجي وعن منظمة طلائع البعث برمتها، يبرز السؤال الهام في هذه المناسبة: هل يريد النظام حقاً استعادة الجولان؟ لا داعي بالطبع للإجابة عن هذا السؤال لأن نظام الأسد الذي تعيّش على المتاجرة بالجولان لن يفكر باستعادته، بل سيرفض أن يعود له لو فُرض ذلك على إسرائيل، ولكن لماذا يريد النظام أن يستعيد الجولان إن صدقنا نواياه، وماذا سيفعل به لو تمت استعادته فعلاً؟ هل من أجل تدميره وتهجير سكانه؟ هل من أجل تسليمه إلى إيران؟ هل من أجل بيعه في المزاد العلني لأي قوة احتلال تضمن بقاء الأسد في السلطة لوقت أطول؟
ليس المطلوب من النظام اليوم أن يستعيد أرضاً محتلة، بل أن يتوقف عن بيع ما تبقى من أراض سورية، فمن فرط بسوريا كلها ودمرها وقتل شعبها وهجره لن يصدق أحد بكاءه على جزء من ترابها، ورغم حلم السوريين باستعادة الجولان، إلا أن كابوسهم الذي باتوا يعيشونه واقعاً هو ضياع سوريا وتلاشيها طالما بقي الوريث البائع متحكماً بقرار ما تبقى من البلاد..