لم تكن نكسة الخامس من حزيران في عام 1967 مجرد هزيمة جديدة أضيفت إلى سلسلة الهزائم التي سبقتها في الصراع العربي الإسرائيلي، بل إنّها قد شكّلت منعطفاً راديكالياً في مختلف جوانب واقع المجتمع العربي، ولم يكن الأدب والشعر العربيين إلّا أحدهما، فأدب ما بعد النكسة ليس كما قبلها.
كانت النكسة خيبة أمل كبيرة أرخت بثقلها على أرواح مثقفي تلك الحقبة. وكان الشاعر الراحل نزار قباني أحد أكبر من أصابته النكسة بالألم والخذلان.
نزارالذي كان شعره غزلياً رومانسياً اتخذ منحى مغايراً بعد النكسة وأخذ طابعا سياسيا ثوريا يحمل قضايا جيله ويدافع عن حريّتهم، ويعبرنزار عن ذلك التغيّر في أشعاره بقوله:
"يا وطني الحزين
حوّلتني بلحظة
من شاعر يكتب شعر الحبّ والحنين
لشاعر يكتب بالسكين"1
وفي أعقاب النكسة أصدر ديوانه الشهير "هوامش على دفتر النكسة" الذي أثار غضب القيادات المصرية حيث مُنِعَ على إثره من دخول مصر كما منعت أشاعره المُلَحنة من البثّ عبر القنوات والإذاعات المصرية إلى أن أرسل نزار لـ جمال عبدالناصر رسالة عبّرَ فيها عن الأسباب التي دفعته لكتابة تلك الأشعار وشرح فيها موقفه من النكسة، ونجحت تلك الرسالة في مبتغاها وأُلغي المنع عنه وعن قصائده، قال بعدها نزار: "كسرتُ الحاجز بين السلطة والأدب".
ولم يكن ديوانه ذاك إلّا قطرة من غيث تلاه في مهاجمة الديكتاتوريات العربية واضطهادها لشعوبها ومحاربتها لحرية الكلمة والفكر يقول:
"أتجوّل في الوطن العربيّ
وليس معي إلّا دفتر..
يرسلني المخفر للمخفر..
يرميني العسكر للعسكر..
وأنا لا أحمل في جيبي إلّا عصفور
لكن الضابط يوقفني
ويريد جوازاً للعصفور
تحتاج الكلمة في وطني
لجواز مرور!!"2
ويقول في قصيدة أخرى:
"في بلادي،
يمكن أن يكتب الإنسان ضدّ الله..
لا ضدّ الحكومة.."3
وكتب أيضاً العديد من القصائد التي هاجم فيها الحكّام العرب وفضح ممارساتهم من أشهرها (حوار مع ملك المغول، وتقرير سرّي جداً من بلاد قمعستان، والديك والحبّ والبترول) وغيرها الكثير من القصائد التي منعت في معظم الدول العربيّة.
ونالت الشعوب العربيّة قسطاً من سخط نزار وعاب عليهم خوفهم وتقهقرهم ورضاهم بالهوان، يقول:
"ونحن قانعون
بالحرب قانعون .. والسِلم قانعون
بالحَرّ قانعون .. والبَرْد قانعون
بالعُقْم قانعون .. بالنَسْل قانعون
بكلّ ما في لوحنا المحفوظ في السماء ..
قانعون ..
وكل ما نملك أن نقوله:
إنّا إلى الله لراجعون"4
ولكنه رغم سخطه لم يتخلَ عن حضًهم على الثورة والتحرر من الاستبداد وأصدر في عام 1988 ديوان (تزوجتكِ أيتها الحرّية) الذي تضمّنت مجمل قصائده دعوات للحرية، جاء في مقدمته:
"لستُ أدري ماذا يقول الشاعر؟
وهو يمشي في غابة من خناجرْ ..
أطلقوا نارهم على المتنبي ..
وأراقوا دماء عامرْ.
لو كتبنا يوماً رسالة حبّ ..
شنقونا على بياض الدفاترْ
ما بوسع السيّاف قطعُ لساني
فالمدى أزرقٌ .. وعندي أظافرْ"
وكان لـ فلسطين أيضاً نصيب كبير من أشعار نزار فتغنى بفتح والقدس وأطفال الحجارة وخلّد كذلك بيروت في العديد من قصائده
وكان لـ فلسطين أيضاً نصيب كبير من أشعار نزار فتغنى بفتح والقدس وأطفال الحجارة وخلّد كذلك بيروت في العديد من قصائده، إلى أن جاء تفجير السفارة العراقية في بيروت عام 1981 الذي قُتِلَت فيه زوجته بلقيس مما أدى إلى تعميق جراحه وزاد من سخطه على الحكّام العرب حيث اعتبرهم جميعهم مسؤولين عن اغتيال زوجته التي نعاها بقصيدة حملت اسمها جاء في مطلعها:
"شكراً لكم
شكراً لكم
فحبيبتي قُتِلَت .. وصار بوسعُكم
أن تشربوا كأساً على قبر الشهيدة
وقصيدتي اغُتِيلت
وهل من أمّةٍ في الأرضِ
إلّا نحنُ نغتالُ القصيدة؟"5
انتقل بعد ذلك نزار إلى سويسرا وبقي فيها خمس سنوات ثم ارتحل إلى لندن واستقر فيها حتى وفاته في مثل هذا اليوم مِن العام 1998 مخلّفاً إرثاً كبيراً من الأعمال الشعرية والنثرية وفكراً ثورياً تواقاً للحرية.
في ذكرى رحيله العاشرة عام 2008 فاجأ أولاد نزار (هدباء وزينب وعمر) عشاقه بمجموعة مِن القصائد لم تكن نُشرت من قبل، جمعوها في ديوان أطلقوا عليه (أبجدية الياسمين) جميع قصائده مكتوبة بخط نزار.
بعد مقدمة قصيرة يتفاجأ القارئ بصفحة فريدة يظهر فيها اسم إحدى الصيدليات وشعارها وحوله ما كان يحاول نزار أن ينظمه كقصيدة، ذلك أن نزار استفاق في ليلة وشعرَ برغبة في الكتابة فوجد قلم ولم يجد بجواره ورق ليكتب عليه، وكان بجواره كيس أدويته المصنوع من الورق فأخرج ما بداخله وخطّ عليه عددا من الجمل منها ما شطبه ومنها ما ترك كقوله:
"بدونك ليس هنالك نايٌ ..
وليس هنالك عزفٌ ..
وليس هنالك من يعزفون"
خلال مرضه الأخير لم تخلُ الغرفة "رقم 12" ولا أجنحة مستشفى "سان توماس" في لندن من عشّاق وزوّار نزار وامتلأ المشفى بالورود، وكان لهذا بالغ الأثر في نفس نزار واعتبر أن تلك اللحظات بمثابة ميلاد جديد له وتساءل عن الذي فعله ليستحق كل هذا الحبّ من الناس فيقول: "هل كتابة الشعر وحدها تعطيني مثل هذا الامتياز؟"6
وبلغ الأمر حد دهشة الطاقم الطبّي الإنجليزي، يعبر عن ذلك نزار: "حتى إنّ الأطباء والممرضات البريطانيين، كانوا يتساءلون: من هو هذا الشاعر العربيّ الذي حمل قبيلته معه وجاء ليشغل أجنحة هذا المشفى الإنجليزي العريق؟"6
لم تحد قصائد نزار الأخيرة التي نظمها في المشفى عن خطه الشعري الثوري والرومانسي، فكان الحبّ حاضراً بقوة:
"ما زلت أبحث عن كلامٍ آخرٍ..
لم تسمعيه..
ووردةٍ حمراءَ..
توجِزُ كلَّ تاريخِ العبير.."7
وكقوله في قصيدة أُخرى:
"أقرأُ كتاب يَدَيكِ..
حَرْفاً .. حَرْفاً
فاصِلِةً .. فاصلَةْ
كما أقرأُ نشيدَ الإنشادْ
أو سورة مَريم"8
وأيضاً كان لواقعه العربيّ نصيب من آخر ما كتب:
"أنا من بلادٍ ..
كالطحينِ تناثَرَت ..
مِزقاً ..
فلا ربٌّ ولا توحيدُ ..
تغزوُ القبائلُ بعضَها بشَهيَّةٍ ..
كُبرى ..
وتفترسُ الحدودَ حدودُ.."9
ولم تفته الأندلس أو شبابيك دمشق ولا حتى شهريار، ولكنّه تعب أخيراً من الكلام الذي لا طائل له فقال:
"لم يبقَ عندي ما أقول
لم يبقَ عندي ما أقول
تعبَ الكلامُ من الكلامِ
ومات في أحداقِ أعيننا النخيلُ
شفتايَ من خَشبٍ
ووجهُكِ مرهقٌ
والنهْدُ لم تعد تدقُّ لهُ الطُبول"10
وفي فجر الخميس 30 نيسان من العام 1998 رحل نزار ودفن في دمشق بناءً على وصيته "أدفن في دمشق، الرحم التي علمتني الشعر والإبداع، وأهدتني أبجدية الياسمين".
الهوامش:
1- قصيدة هوامش على دفتر النكسة
2- قصيدة الحاكم والعصفور
3- قصيدة الخطاب
4- قصيدة الممثلون
5- قصيدة بلقيس
6- الوطن .. حول سريري
7- قصيدة في الحبِّ المُقارَن
8- قصيدة التفرّغ
9- قصيدة طعنوا العروبة في الظلام بخنجر فإذا هم بين اليهود يهود
10- قصيدة تعب الكلام من الكلام