يشكّل توصيف العلاقة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، منذ أكثر من عقدين ونيّف، واحداً من أعقد قضايا التحليل السياسي وأكثرها إثارةً للجدل والاختلاف، حتى بين المتخصصين في علم السياسة والعلاقات الدولية، نظراً لطبيعة هذه العلاقة المركّبة، وتداخل متغيرات عدّة في تفاعلاتها. لكن استقرار سقوف تلك العلاقة، بصورة لا تشكّل تهديداً حقيقياً للمصالح الاستراتيجية للطرفين، دفع شريحة كبيرة من المتخصصين، نحو توصيفات تتراوح بين "التخادم المتبادل"، و"العداء المفيد"، والتشكيك بوجود "عداء" حقيقي، بين الطرفين، ليكون ركيزة لنطاق واسع من التحليلات المتعلّقة بطبيعة هذه العلاقة.
وقد تكون من أكثر المحطات إثارةً للتشويش والارتباك هي تلك التي شهدت تعاوناً شبه علني، بين الطرفين، للقضاء على تنظيم "الدولة الإسلامية – داعش" في العراق، وما بدا أنه ضوء أميركي أخضر لإنقاذ نظام الأسد في سوريا من الانهيار، خشية البديل الإسلامي "المتطرّف"، حتى وصلت ملامح التفاهم بين الطرفين إلى ذروتها في الاتفاق النووي عام 2015.
لكن، في مرحلة لاحقة، وتحديداً، منذ تراجع خطر "داعش" بالعراق وسوريا، تناقضت مصالح الطرفين، وطبّقت إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، سياسة "ضغط قصوى" على إيران، بغية لجم نفوذها المتصاعد في المنطقة، وصلت ذروتها في اغتيال قاسم سليماني، قائد "فيلق القدس" بالحرس الثوري الإيراني، مطلع العام 2020. ومنذ ذلك التاريخ، حكمت معادلة تصعيد منخفض الكلفة مرفق بقواعد اشتباك مدروسة بعناية، استهدافاتٍ شنّها كل طرف، ضد قواعد ومصالح الطرف الآخر في سوريا والعراق.
ومع قدوم إدارة الرئيس الديمقراطي، جو بايدن، إلى سدة السلطة بواشنطن، رفعت طهران من وتيرة استهدافاتها للقواعد الأميركية، خاصة في سوريا، دون أن تخرق قواعد الاشتباك المتمثّلة في تجنب سقوط قتلى من الجنود الأميركيين، على أمل أن يعزّز هذا الاستنزاف الهادئ، مواقف شريحة من النخبة السياسية الفاعلة في واشنطن، والتي تنادي بالانسحاب العسكري من سوريا، نظراً لكونه غير مجدٍ في تحقيق المصالح الأميركية، من وجهة نظر هذه الشريحة.
يساعد تشريح التصعيد الإيراني بعيد حرب غزة، في فهم جوانب من العلاقة الإيرانية – الأميركية، بصورة تسمح بتوصيفها، بأكبر قدر ممكن من الموضوعية البعيدة عن التحيّز السياسي
وجاءت الحرب في غزة، لتشكّل منعطفاً في التصعيد الإيراني المدروس والتدريجي ضد الوجود الأميركي في المنطقة، وصولاً إلى ذروته التي تمثّلت في التسبب بقتل 3 جنود أميركيين وجرح العشرات، بشمال شرقي الأردن، نهاية الشهر الفائت. وهو ما أعاد الاهتمام والجدل مجدداً في تعقيدات العلاقة بين طهران وواشنطن. خاصةً، بعد ما بدا أنها ترتيبات للتهدئة، يعمل الطرفان على الاتفاق بخصوصها، في أعقاب الرد الأميركي، الذي جاء بدوره مدروساً ومشفوعاً بإعلامٍ مُسبق للطرف الآخر.
ويساعد تشريح التصعيد الإيراني بعيد حرب غزة، في فهم جوانب من العلاقة الإيرانية – الأميركية، بصورة تسمح بتوصيفها، بأكبر قدر ممكن من الموضوعية البعيدة عن التحيّز السياسي. وبقدر ما يعبّر هذا التصعيد عن براعة صانع القرار الإيراني في البحث عن الفرصة في كل تهديد يستهدف مصالح بلاده، بقدر ما يعبّر عن اطمئنان صانع القرار ذاك، إلى استقرار سقوف العلاقة مع واشنطن، بصورة لا تشكّل تهديداً لاستقرار نظامه.
أما مكمن التهديد الذي مثّلته الحرب الإسرائيلية الشرسة ضد حركة حماس في غزة، على مصالح الإيرانيين بالمنطقة، فكان من زاويتين. سياسية – دعائية، تتعلّق بالإحراج الذي يمثّله استفراد إسرائيل بحركة حماس، دون رد فعلٍ من القوى المحسوبة على طهران. وهو ما لم تستطع النخبة الحاكمة الإيرانية تحمّله، حتى مع استيائها وصدمتها من حجم هجوم حماس يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، وضخامة خسائر الإسرائيليين من جرائه، خلافاً لقواعد الاشتباك المعتادة بين قوى "المحور الإيراني" وإسرائيل، القائمة على الحرب منخفضة الكلفة. أما الزاوية الثانية، فكانت استراتيجية، وتتمثّل في خطر امتداد الحرب الإسرائيلية زمنياً، دون كوابح، بصورة قد تجعل سيناريو الإجهاز على حماس، أمراً وارداً، وهو ما يعني خروج إسرائيل "منتصرة" بصورة غير مسبوقة، على "المحور الإيراني"، الأمر الذي يهدد بتكرار هذا السيناريو، في حالة "حزب الله"، بلبنان.
أما الفرصة التي قرأتها طهران، في ذاك التهديد، فكانت استعادة جانب من "القوة الناعمة" والتأثير، في الشارع العربي، بعد أن تورطت في حربٍ خشنة ومثخنة بالانتهاكات الجسيمة، خلال العقد الفائت، بغية إنقاذ نظام الأسد من السقوط، بصورة هشّمت صورتها التي عملت في العقد الأول من القرن الفائت، على بنائها، في أوساط غالبية من الجمهور العربي، على أنها "قائدة" محور مقاوم، يستهدف إسرائيل. ولانتهاز هذه الفرصة، كان على طهران دفع القوى التابعة لها، إلى تصعيدٍ مدروس بعناية، أتقنه، بصورة خاصة، حزب الله على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية. لكن هذا التصعيد، خرج عن السيطرة في حادثة مقتل الجنود الأميركيين نهاية الشهر الفائت، الأمر الذي دفع طهران إلى إعادة ضبط تصعيدها، وتبادل الرسائل مع واشنطن، لإعادة قواعد الاشتباك بينهما، إلى سابق عهدها.
تلك التطورات الأخيرة، تؤشر بصورة جليّة إلى سقوف العلاقة الإيرانية – الأميركية، والأهداف العميقة للطرفين من تلك العلاقة. فأولوية النخبة الحاكمة في طهران، منذ عقدين ونيّف، هو التحوّل إلى قوة إقليمية كبرى، تكون شريكةً في ترتيب المشهد الإقليمي، مع أي قوة دولية فاعلة بالشرق الأوسط. سواء كانت الولايات المتحدة، أو حتى الصين وروسيا. لذلك، حينما هدّدت الثورة بسوريا عام 2011، إحدى ركائز هذا المشروع الإيراني، متمثّلة في احتمالية إسقاط نظام الأسد، وخسارة صلة الوصل البرّية بين إيران وأيقونة تاج نفوذها بالمنطقة –حزب الله في لبنان-، تبدت الأولوية الإيرانية بصورة لا تقبل الجدل، وتورّطت إيران في حربٍ قذرة ضد غالبية مناوئة للأسد، ولم تهتم بالتضحية بالصورة التي عملت جاهدةً على رسمها قبل الـ 2011، في مخيال الشارع العربي. ويستلزم المشروع الإيراني، بطبيعة الحال، تجنّب أي مواجهة كبرى خارجة عن السيطرة مع الولايات المتحدة الأميركية، أو بين ذراعها اللبناني – حزب الله – وإسرائيل، لأن تراكم القوة لدى القوى التابعة لطهران، في المنطقة، غايته خدمة تطلعات طهران نحو نفوذ إقليمي كبير، لا القضاء على إسرائيل، التي تملك الآن عشرات أضعاف ما يمكن أن تملكه طهران، حينما تفجّر قنبلتها النووية الأولى. وتدعيم هذا النفوذ الإيراني، يتطلّب قوة ناعمة، لا خشنة فقط. ومن أبرز وجوه تلك القوة الناعمة، استعادة التأثير الإيراني، في الشارع العربي، الذي يستند أساساً إلى بروباغندا العداء لإسرائيل وأميركا. وهو التأثير الذي تهشّم خلال العقدية الفائتة، وتحاول طهران استغلال حرب غزة، لترميمه الآن.
لا ترى واشنطن في إسقاط النظام الإيراني، مصلحةً أميركية، سواء من حيث الكلفة المرتفعة للغاية، لتحقيق هكذا هدف، أو من حيث التداعيات المحتملة له
أما من الجانب الأميركي. فيدرك صانع القرار بواشنطن أن التهديد الإيراني العلني لإسرائيل، غير دقيق، حتى على المدى البعيد. وأن إيران قوة إقليمية صاعدة، وطامحة، على غرار قوى أخرى، تريد واشنطن ضبط صعودها، بصورة تخدم مصالحها في البقاء بوصفها القوة الدولية الأكثر فاعلية ونفوذاً بالشرق الأوسط. في المقابل، لا ترى واشنطن في إسقاط النظام الإيراني، مصلحةً أميركية، سواء من حيث الكلفة المرتفعة للغاية، لتحقيق هكذا هدف، أو من حيث التداعيات المحتملة له، والتي أقلها، فوضى كبرى في المنطقة، يصعب ضبطها، إن فرط عقد دولة بحجم إيران. ولضبط الصعود الإيراني، دون تهديد استقرار النظام الحاكم بطهران، تزاوج واشنطن بين أدوات اللجم الناعمة كالعقوبات، والخشنة أحياناً، كاستهداف أذرع إيران بالعراق وسوريا، وبين التواصل الدبلوماسي، العلني أو السرّي، المباشر، أو عبر وسطاء.
ونظراً لتلك السقوف والأهداف العميقة في العلاقة الإيرانية – الأميركية، تبدو تلك العلاقة معقّدة. ووتتبدى من حين لآخر، ملامح "تخادم متبادل" يصعب غض الطرف عنها، كما تتبدى أيضاً ملامح "اشتباك" يصعب تجاهلها هي الأخرى. ويحاول كل طرف، بصورة خاصة –الإيراني-، مداراة ذلك، باستخدام البروباغندا، والاشتباكات منخفضة الكلفة. لكن أياً منهما، لا يعنيه تشكيل تهديدٍ نوعي لمصالح أو وجود الطرف الآخر.