"تفاهة الشر" هي الظاهرة التي أطلقتها المنظِرة السياسية حنة آرندت بعد حضورها لجلسات محاكمة الضابط النازي أدولف آيخمان في العام 1961 في القدس، بعد أن رأته شخصاً عادياً يُنفذ الأوامر لا غير ووصفت ذلك بقولها: "لم أقم بالدفاع عن آيخمان، لكني حاولت أن أربط بين الاعتيادية الشديدة لهذا الرجل وبين أفعاله الموغلة في فظاعتها"، إذ أنَ الأوامر التي كان ينفذها الضابط آيخمان، كانت ببساطة تنظيم نقل الملايين إلى معسكرات الاعتقال "أوشفيتز" لتتم إبادتهم جماعياً، وهي كانت الملاحظة الوحيدة الخارجة عن المألوف!
هذه الظاهرة جاءت تجاوزاً لمصطلح "الشر الجذري" الذي طرحته آرندت في كتابها أسس التوتاليتارية الصادر عام 1951، والذي جادلت فيه أنَ شر النازيين مطلق وغير إنساني إذ كتبت: "إنَ حقيقة معسكرات الاعتقال تُذكرنا بصور الجحيم في القرون الوسطى وأنَ الشر المطلق الذي يجسده النازيون، كان مدفوعًا بنوايا جريئة ووحشية لمحو الإنسانية نفسها".
عادية اسم الظاهرة خلقت لبساً لدى كثيرين في مدى توصيفها لعمليات الإبادة الجماعية التي قام بها النظام النازي، إذ لم تَستخدم مفردات اعتدنا على استخدامها لوصف الشر، مثل الوحشية والانحراف والتطرف، هكذا ببساطة سمتها "تفاهة الشر" لكن مَن يقرأ مضمونها يتضح له براعة هذا الوصف واختصاره لما يمكن أن تقوم به الأنظمة الشمولية من شر، فهل هناك شرٌ أكثرَ من تطبيع عملية القتل (جعله طبيعياً)، بمعنى تحويله لفعل عادي واعتيادي، كتناول العشاء أو لقاء الأصدقاء! دون أن يُحدِث ضجةً أو انتباهاً بأنَ أمراً جَللاً قد حصل!
جامعة الدول العربية دانت الهجوم على الكلية الحربية في حمص، الذي وقع في السادس من أكتوبر العام الجاري ووصفته بالإرهابي، لكنها صمتت أمام الهجوم الموازي على المناطق في شمال غربي سوريا والمستمر منذ سنوات
ربما ظننا أنَ الأنظمة الشمولية قد انتهت بانتهاء الستالينية والقضاء على النازية، لكننا ها هنا وفي هذا القرن وهذه الأعوام منه، نرى أنَ القتل بات فعلاً يومياً يُمارَس بانتظام، ولم يعد حَدَثاً أو سؤالاً مركزياً يحتل المرتبة الأولى لتحديد الموقف الأخلاقي منه، إذ بات السؤال هو مَن الذي يُقتَل، فجامعة الدول العربية دانت الهجوم على الكلية الحربية في حمص، الذي وقع في السادس من أكتوبر العام الجاري ووصفته بالإرهابي، لكنها صمتت أمام الهجوم الموازي على المناطق في شمال غربي سوريا والمستمر منذ سنوات، وكذلك فعلت الدول الغربية وأميركا بإدانتها للقتل في سوريا، لكنها أشاحت بوجهها بل وتساعد عليه في فلسطين والمستمر منذ عقود!
نجد أنفسنا في هذا المشهد، أمام تحييدٍ لحياة مجموعةٍ أو جماعاتٍ من الناس، لا تنطبق عليهم قواعد المحاكمة الأخلاقية العامة للفعل وللحياة الإنسانية، إذ تتم محاكمتهم وفق قواعدَ وقيمٍ جديدة عُمل على إنشائها من قبل نظامٍ ما، ربما يختلف بالاسم لكنه يتفق بالصفات والآلية.
نجح نظام الأسد في سوريا بتحييد منطقةٍ كاملة، لم تعد تنطبق عليها المعايير الإنسانية الحاكِمة والمُحَكِمة للفعل، بل تمكن من فرض معاييره وقوانينه التي عمل على إنشائها، إذ باتت الغارات الجوية والتي تُخلِف عشرات الضحايا في إدلب، فعلاً يومياً عادياً لا يلفت حتى نشرات الأخبار، وبالعكس يتمُ تأويله بتأويلاتٍ مثل محاربة الإرهاب وتحرير الأراضي.
كذلك وضعت إسرائيل الفلسطينيين في قطاع غزة، في نفس المنطقة "القيمية"، بعد أن فرغته من مظاهر الحياة الطبيعية والبسيطة، وعملت على تصوير مَن يعيشون فيه بعديمي القيمة، ويصبح قتلهم والتنكيل بهم هو شيء طبيعي لا يستحق التنديد حتى، ولا يقترب من أن يكون جريمةً ضد الإنسانية، ليكون خروجهم عن هذا الوضع (كعملية طوفان الأقصى) هو الوضع غير الطبيعي والتمرد الذي يجب أن يُحاسَب.
تعمل الأنظمة الشمولية إن أرادت تحييد مجموعةٍ من الناس أو منطقة أو حتى شعب بكامله، على تفريغ هذه المجموعة من قيمتها وقيمة حياتها، لتُبرر أي سلوكٍ يمكنُ أن يُتَخذ أو يُمارَس بحقهم. تبدأ بخطواتٍ صغيرةٍ جداً ربما لن يتم الانتباه إليها في الصورة العامة، لكن يتمُ ربطها بقيمٍ كُبرى، تُصبح هي المُحَكِمة لمحاسبة هؤلاء المدنيين فيما بعد.
عمل نظام الأسد منذ بداية الثورة، على الترويج لأفكار ربما تبدو مُضحكة للوهلة الأولى، كالمجسمات القطرية والساندويتشات المغلفة بالخمسمئة ليرة، لكنَه ربطها بدلالاتٍ قيمية كبيرة، كالعمالة للخارج ودعم الإرهاب والرغبة في تدمير البلد. هذه المعايير أصبحت هي المرجعية في تحكيم قتلهم والتنكيل بهم في فعلٍ يستمر منذ ثلاثة عشر عاماً.
الخطر الثاني الذي تتضمنه هذه الظاهرة، هو كيفية تحويل الأفراد إلى مجرد أدوات في ظل هذه الأنظمة، وهذا ليس بصدد إعفاء الأفراد من مسؤوليتهم، بقدر ما هو إبراز لمدى الخراب والتدهور الأخلاقي الذي تصنعه الأنظمة الشمولية في المجتمعات، إذ لا تتعلق تفاهة الشر بأفراد بل بالأنظمة، التي تعمل على تذويب الأفراد وقتل أهميتهم في مقابل أهميتها، وإبادة قيمهم وخلق قيمها.
تقول آرندت: "المشكلة مع مجرم نازي مثل آيخمان أنه أصر على إنكار كل الصفات الشخصية، وعارضَ باستمرار وثبات أنه لم يكن يفعل سوى إطاعة الأوامر".
ربما إذا سمعنا في المستقبل محاكمات لضباطٍ من نظام الأسد أو الجيش الإسرائيلي، سنتذكر عندها الضابط النازي أدولف آيخمان، الذي تخلى عن كينونته الفردية، لصالح أن يكون جزءاً من النظام الشمولي الأكبر
نفى الضابط النازي أي نية أو مبادرة شخصية للقيام بأي نوعٍ من الفعل خيراً كان أم شراً، وبهذا المعنى تحول إلى أداةٍ ليس أكثر من أدوات النظام الشمولي، أي أنه تخلى عن كينونته كفرد، يحتكم للمعايير الإنسانية المُحَكِمة، لصالح أن يكون جزءاً من ذلك النظام الشمولي الذي يحتكم لمعايير من وضعه هو، بعيداً عن معايير الأفراد والمجتمعات والقيم الإنسانية.
ربما إذا سمعنا في المستقبل محاكمات لضباطٍ من نظام الأسد أو الجيش الإسرائيلي، سنتذكر عندها الضابط النازي أدولف آيخمان، الذي تخلى عن كينونته الفردية، لصالح أن يكون جزءاً من النظام الشمولي الأكبر.
وسواء كانت تفاهة الشر أم الشر الجذري وراء تطبيع القتل، إلاَ أنهما تبقيان في إطار محاولة فهم هذه الظاهرة، التي لن يلغي فهمها من عدمه حقيقة ومرارةَ وجودها، والذي يبدو أنه ومن بين جميع مستويات وأنواع التطبيع الحاصل، عربياً-أسدياً كان أم عربياً-إسرائيلياً، وحده تطبيع القتل هو التطبيعُ النافذُ بينهم!