مع اقتراب حلول الذكرى الثالثة عشرة لانطلاقة الثورة السورية في شهر آذار المقبل، تعود إلى مخيّلة السوريين وأذهانهم مجمل تطلعات التحرر والتغيير التي عبّر عنها الحراك السوري إبان انطلاقته الأولى والمتمثّلة بأمرين أساسيين: إزالة نظام التسلّط والاستبداد، وبناء دولة القانون والحريات والديمقراطية، علماً أن تحقّق الأمر الثاني مرهونٌ بتحقّق الأول. وعلى الرغم من عدم تحقق تلك التطلعات على مستوى الواقع الفعلي إلّا أنها تبقى محتفظةً بحضورها المؤثّر- على الأقل - في تفكير ونفوس كثير من السوريين، وفي ضوء ذلك ربما تبدو مقاربة ما تطلّع إليه السوريون منذ أكثر من عقد، ضمن المشهد المناهض لنظام الأسد، أمراً مفيداً، بل ضرورياً، وذلك في ظل استمرار المأساة السورية موازاةً مع المستجدّات الدولية والإقليمية التي ترمي بظلالها على القضية السورية.
لعل إخفاق قوى المعارضة السورية في مواجهة استحقاق التغيير- سواء أكان هذا الإخفاق بسبب عوامل ذاتية أو أخرى خارجية – قد أنتج أكثر من توجّه أو مسار على الصعيد السياسي والميداني الراهن، إذ ثمة مسار تتبنّاه وتعمل ضمن نطاقه المعارضات الرسمية بشقيها السياسي والعسكري، ويتجسّد بالعملية السياسية التي استمدّت مشروعيتها من القرارات الأممية ذات الصلة بالقضية السورية، ولكن بعد إفراغ تلك القرارات من مضامينها الجوهرية واستبدالها بوجهة النظر الروسية، ووفقاً لذلك تمضي المعارضة السورية في ركاب اللجنة الدستورية أملاً في كتابة دستور جديد للبلاد، تليه انتخابات جديدة بإشراف أممي، متجاوزةً النقطة الجوهرية في العملية السياسية والمتمثلة بإنشاء هيئة حكم انتقالي ذات صلاحيات كاملة بعيدة عن تسلّط بشار الأسد.
المخرج الوحيد والمتاح لمسار أستانا الذي تنضوي المعارضة السورية في ركابه، هو تحقيق مصالحة بين تركيا ونظام الأسد، يُفضي بدوره إلى مصالحة لاحقة بين النظام والمعارضة
يبرّر أصحاب هذا التوجّه مسعاهم هذا بأن القرارات الأممية ليست ملزمة التطبيق لنظام الأسد، أي ليس مدرجاً تنفيذها تحت البند السابع، ثم إن إلزام الأسد بتنفيذها يحتاج إلى قوّة دولية لها مصالح مباشرة بتغيير النظام وهذا ما لم يتوفر حتى الآن، وفي ظل هذه المعطيات لا بدّ من البحث عن خيارات أخرى – وفقاً لأصحاب هذا الاتجاه – يمكن أن تسهم في وضع حدّ للمأساة السورية ولو بقي (الأسد على رأس السلطة)، وهذه العبارة الأخيرة ربما لا تقولها صراحة المعارضة الرسمية السورية، ولكن التزامها بمسار سياسي مؤطر بهذا المفهوم يؤكّد قبولها التام بمضامينه، بل يمكن التأكيد على أن المخرج الوحيد والمتاح لمسار أستانا الذي تنضوي المعارضة السورية في ركابه، هو تحقيق مصالحة بين تركيا ونظام الأسد، يُفضي بدوره إلى مصالحة لاحقة بين النظام والمعارضة، قائمة على تفاهمات تشرف عليها وتصوغها الدول الثلاث الراعية لمسار أستانا، وذلك دون أي إشارة أو اشتراط مسبق لغياب الأسد عن السلطة.
ويلتقي مع هذا المسعى جملة من أصحاب المبادرات الأخرى التي لا ترى أي جدوى في استمرار المطالبة بإسقاط النظام في ظل المستجدات الدولية والإقليمية الراهنة، وخاصة من جهة موجات التطبيع المتلاحقة مع الأسد بعد إعادته للجامعة العربية، وكذلك في ظل النأي الدولي عن القضية السورية موازاةً في استمرار روسيا وإيران في دعمهما المطلق لحاكم دمشق، ولعل الأهم من ذلك هو تقاسم النفوذ الذي أتاح ظهور أربع حكومات أمر واقع داخل الجغرافيا السورية، الأمر الذي يجعل من مسألة التقسيم أمراً واقعاً سواء أسلّمنا به أم لا، وطالما الأمر كذلك – وفقاً لأصحاب هذا الرأي – لمَ لا يسعى السوريون إلى تحسين شروط التقسيم الحاصل، كأنْ يتم توحيد منطقتي نفوذ وجعلهما تحت سلطة واحدة تستمد شرعيتها من المواطنين الذين تحكمهم أو تقوم على تيسير وتسيير شؤونهم، وربما أدى هذا المسعى إن توافرت شروط نجاحه إلى استعادة السوريين لمواردهم الوطنية، ولا شك أن هذا سيؤدي إلى تحسين مستوى المعيشة وعودة المهجرين والنازحين إلى ديارهم، مع استمرار المسعى الضاغط على نظام الأسد بغية إلزامه بتطبيق الحل الأممي.
وفي هذا السياق ربما تندرج مبادرات وطروحات أخرى ترى ضرورة التأسيس لنموذج حكم فيدرالي يؤدي إلى تحييد أو عزل سلطة الأسد عن المناطق الأخرى، وذلك وفقاً لمبدأ: (ما الذي يمنع من إصلاح الجزء إذا تعذّر إصلاح الكل).
وعلى الرغم من تباين المسعيين السابقين من جهة الأطر الناظمة لكل طرف، إذ غالباً ما يكون أصحاب المبادرات من خارج كيانات المعارضة الرسمية، بل ربما انبثق نشاطهم من (منظمات مجتمع مدني)، إلّا أن الجامع بين أفكارهما أو مسعاهما هو أن كليهما لا يرى جدوى في مواجهة استحقاق إزالة نظام الأسد، لعدم توفّر الحوامل الناهضة بهذا الاستحقاق، كما يجد الطرفان أنه يمكن للسوريين أن يعبروا من واقعهم المأساوي إلى مستقبلهم الأفضل على الرغم من وجود نظام الأسد في السلطة. ولعله من المفيد الإشارة إلى أن نظام دمشق كان سابقاً لهذه المبادرات جميعها، حين طرح مفهوم (سوريا المفيدة) كاحتمال قائم إن اقتضت الضرورة، منذ عام 2012.
أمّا التوجّه الثاني في المشهد الراهن والمناهض لنظام الأسد فلا شك أنه أقلّ حضوراً وأضعف نفوذاً من التوجّه أو المسار السابق، إذ لا يوجد إطار جامع وناظم لجميع أصحاب هذا التوجه أولاً، ثم إنه لا يدخل في حقول التبعية لأي دولة أو أجندة أو جهة داعمة ثانياً، فمعظم أفراده إمّا ناشطون سياسيون مستقلون خارج فضاء الأحزاب والأطر السياسية، وإما ناشطون حقوقيون يعملون بدأب وصمت على أكثر من مستوى حقوقي وإنساني بهدف إحقاق الحق وانتصار العدالة عبر حثّ المحاكم الدولية على محاسبة نظام الأسد ورموزه على ما ارتكبوه من فظائع بحق السوريين، ويدخل في حيّز هؤلاء أيضاً مثقفون ما يزالون يرون أن الوازع الأخلاقي ينبغي أن يكون هو الرائد الحقيقي للعمل الوطني، باعتبار أن القضية السورية برمتها ذات معين أخلاقي قبل أي اعتبار آخر، ويمكن أن يكون في عداد هذا التوجه أيضاً مجموعة الجالية السورية والمنظمات العاملة في الولايات المتحدة الأميركية، وهي صاحبة جهود جبارة ومخلصة، وكانت هذه الجهود وراء صدور أكثر من قرار أميركي ضاغط على نظام الأسد، قانون قيصر ثم قانون مكافحة الكبتاغون، وأخيرا قانون مناهضة التطبيع مع نظام الأسد الذي صوتت عليه أغلبية ساحقة من مجلس النواب ليلة الخامس عشر من شباط الجاري.
لهذه الأسباب يبدو عبور السوريين نحو مستقبلهم الأكثر إنسانية مشروطا باجتثاث الوباء المتمثل بنظام الإبادة
بإيجاز شديد يرى أصحاب هذا التوجّه أن صراع السوريين مع سلطة الأسد لم يعد قائماً في حيّز السياسة بل بات صراعاً وجودياً تجاوز تخوم التوافقات أو التفاهمات البينية، وهم إذ يسلّمون بمأساوية الحالة السورية ودمويتها، ولكنهم – على خلاف أصحاب التوجه الأول – يجدون أن الخروج من الحالة المأساوية ينبغي أن يكون عبر اجتثاث أسبابها، ولئن كانت الجغرافيا السورية تتناهبها سلطات أمر واقع تتماهى جميعها مع نزوعها المهين للمواطن السوري، ولئن كانت أيضا جميع مظاهر الخراب القائمة لا تزيد السوريين إلّا إمعاناً بتعاظم المعاناة، إلّا أن هذه المظاهر الموجعة وضروب الشقاء الأخرى ما هي إلّا تداعيات للمشكلة الجذرية المتمثلة باستمرار السلطة الحاكمة. وربما لهذه الأسباب يبدو عبور السوريين نحو مستقبلهم الأكثر إنسانية مشروطا باجتثاث الوباء المتمثل بنظام الإبادة. ولكن هل يملك أصحاب هذا التوجّه أدوات عملية كافية تعضد مسعاهم؟ واقع الحال لا يشير إلى ذلك، بل يمكن القول إن الحراك المدني الثوري الذي انطلق في مدينة السويداء منذ ستة أشهر هو القوة الأبرز الداعمة لهذا التوجه، وتجري الآن جهود حثيثة يبذلها سوريون مخلصون من أصحاب هذا التوجه للخروج بحراك السويداء من إطاره المحلي إلى نطاقه السوري العام، علّ هذا المسعى يتكلل بمبادرة وطنية يُعلن عنها عمّا قريب.
يبقى القول: لعل أكثر ما يخشاه السوريون هو تحوّل معركتهم بين مَن يُشرعِن الهزيمة ويعزّز تداعياتها ثم يحوّلها إلى نصرٍ كبير، وذلك إخلاصاً للنهج الأسدي الممانع، وبين من أخفق في بلوغ هدفه ولكنه لم يكن، ولن يكون (شاهد زور) على استباحة أهله وبلاده.