ليس وحده السيد معاذ الخطيب من ظن في يوم ما، أن (الشمس ستشرق من موسكو)، بل يبدو أن الكثيرين ما يزالون يستلهمون هذه المقولة، اعتقاداً منهم أو ظناً، بأن بوتين هو (الخصم والحكم) بآن معاً. فبعد مرور خمس سنوات على العدوان الروسي المباشر على الشعب السوري، وموازاة مع هذه الذكرى الأليمة، توجهت قبل أيام مجموعة من الشخصيات السورية، تمثّل كياناً سياسياً أنشئ حديثاً يُدعى (جبهة السلام والحرية) إلى موسكو لتعقد لقاء في الخارجية الروسية، وقبل ذلك بأيام أيضاً، أشرف الروس على اتفاقٍ أُبرم بين مجلس سورية الديمقراطية (مسد) برئاسة إلهام أحمد، وحزب الإرادة الشعبية برئاسة قدري جميل، وقبل ذلك بأشهر، جرى لقاء آخر للسيد معاذ الخطيب مع نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف في الدوحة. وفضلاً عن هذه اللقاءات غير المنتظمة، يمكن التأكيد على أن ثمة شخصيات وقوى سورية عديدة تملك خطوطاً ساخنة شبه دائمة مع موسكو، مع التأكيد أيضاً على نسبية هذه السخونة، وذلك وفقاً لسخونة الأحداث الميدانية، لعل أبرز تلك الشخصيات هو خالد المحاميد، نائب رئيس هيئة المفاوضات سابقاً، وصهره أحمد العودة، باعتبارهما عرّابين لعملية دخول الروس، ومن ثم قوات النظام إلى درعا، إضافة إلى قدري جميل وآخرين.
يتقوّم الحراك الساعي إلى استلهام شمس موسكو على قناعات عديدة أهمّها، هو أن روسيا تمسك بكل مفاصل القوّة في الدولة السورية، وهي صاحبة الأمر والنهي على نظام الأسد، وهي كذلك من تبسط نفوذها العسكري في البلاد، وهي أيضاً من يوجّه العملية التفاوضية السياسية بالوجهة التي تريد، ثم هي من يملك القدرة على تعطيل أي قرار في مجلس الأمن، وفضلاً عن ذلك كلّه، فإن التدخّل الروسي العسكري المباشر في سورية إنما كان بتأييد أو توافق دولي، سواء أكان هذا التوافق مُعلناً أو ضمنياً، فلماذا – إذاً – لا يكون اللقاء والحوار مع صاحبة الحلّ والربط بطريقة مباشرة، أي لماذا لا نطرق الأبواب العريضة، دون اللجوء إلى المنافذ الضيّقة والملتوية؟ علماً أن أصحاب هذا الضرب من الحراك، أو الداعين إليه، يتوجهون باللوم الدائم على بقية أطراف المعارضة، متهمين إيّاهم بقلّة الحكمة، والجهل السياسي تارةً، وبالتعنّت وعدم المرونة، بل بالمزايدات الخاوية تارة أخرى.
يتحدث الدكتور برهان غليون في كتابه (عطب الذات) عن لقاء جرى مع الخارجية الروسية، بتاريخ 15 تشرين الثاني 2011، عندما كان الدكتور غليون في قيادة المجلس الوطني، ويشير إلى أنه تحدّث مع لافروف بكل شفافية وانفتاح، وأكّد له حرص السوريين على العلاقات التاريخية بين سورية وروسيا، كما أكّد له قبول المعارضة السورية بكل الامتيازات والمصالح الاقتصادية الروسية في سورية، كما أبدى له رسائل اطمئنان عديدة تؤكّد كلها حرص المعارضة السورية على الاستمرار بعلاقات مميّزة مع روسيا، إلّا أن موقف الروس في ذلك اللقاء كان صادماً – وفقاً للدكتور غليون – من خلال نقطتين اثنتين: تتمثّل الأولى في أن الروس لا يصارعون في سورية من أجل امتيازات ومصالح اقتصادية، بل يصارعون الغرب الذي همّش الدور الروسي عالمياً، بل ما يسعى إليه بوتين هو إعادة الاعتبار إلى الهيبة الروسية بعدما أُهينت واستُبيحت في كل من العراق وليبيا وأفغانستان وأوروبا الشرقية (ص 386). وتتمثّل ثاني النقطتين في ردّة الفعل الساخرة أو التهكّمية التي أبداها لافروف في ذلك اللقاء حيال مصطلح (ثورة شعبية) قام بها الشعب السوري ضدّ الاستبداد، معقّباً بالقول:(نحن الذين نعرف الثورة ونعرف ما هي حقيقتها) ص 387.
بالعودة إلى الحراك السياسي الذي ما يزال ينتظر شروق الشمس من موسكو، إذ يبدو – في ضوء المعطيات الراهنة – أن الانتظار سيطول، خاصة أن بوتين قد أنجز الكثير مما يستدعي الإنجاز على الأرض السورية، فمنذ الثلاثين من أيلول 2015 وحتى الوقت الحاضر، استطاعت روسيا - فضلاً عن الحفاظ على النظام من انهيار عسكري مفاجئ آنذاك - تمكين نظام الأسد من استعادة السيطرة على معظم المدن والبلدات التي كان قد فقد السيطرة عليها، كما استطاعت موسكو إفراغ القرارات الأممية ذات الصلة بالقضية السورية من محتواها الجوهري، وذلك من خلال إحداث مسار آخر مواز لجنيف (مسار أستانا)، مما أفضى إلى اختزال العملية السياسية بلجنة دستورية مجهولة المصير، ولعل المُنجز الميداني الأكثر أهميّة بالنسبة إلى بوتين، هو استهداف الحاضنة الشعبية للثورة، إذ لم يكتف الروس باستهداف الفصائل العسكرية المناهضة لنظام الأسد، بل أجهزوا بعمليات الحصار، ومن ثم التهجير، على 200 ألف مواطن من حلب الشرقية في أواخر العام 2016، ومن ثم تتالت عمليات الاستئصال والتهجير بحق سكان الغوطة الشرقية والريف الدمشقي ودرعا والقلمون، وكانت آخر موجة تهجير في شباط من العام الجاري، إبان العدوان الروسي الذي استهدف سراقب ومعرة النعمان وأرياف إدلب وريف حماة الشمالي والريف الغربي من حلب، إذ بلغ عدد النازحين من المناطق والبلدات المذكورة أكثر من مليون مواطن، معظمهم في مخيمات الداخل السوري.
بفضل ما تملكه من آلة حرب وحشية، استطاعت روسيا، أن تحقق ما تسعى إليه بحق السوريين، سواء بوجود تعاون وتنسيق مع أتباعها السوريين أو بدونهم، فهي ليست بحاجة إلى أعوان ميدانيين فاعلين، بقدر ما تحتاج إلى أصحاب أدوار وظيفية يظهرون أمام الرأي العام ويؤكّدون تماهيهم مع توجهاتها، لشرعنة إجرامها المزمن بحق السوريين، وكذلك لا يبدو بوتين مهتمّاً بأي مبادرة يطلقها منتظرو الشمس الروسية، بقدر ما يهمّه الامتثال لما تمليه الإرادة الروسية، وما دام الأمر كذلك، فما الذي يسعى إليه بوتين ولم يتحقق بعد؟ قد يبدو الجواب واضحاً لدى الكثير من السوريين، باستثناء الذين ما يزالون يثقون بالروس، بل ما تزال تتعزّز قناعتهم بأن الشمس حقاً ستشرق من موسكو، إذ ربما لم يدرك هؤلاء بعد، أن مُنجَزات الروس في سورية – عسكرياً وسياسياً – لم تتحوّل إلى نصر حقيقي ما لم يتم استثمارها اقتصادياً من خلال عملية إعادة الإعمار التي ستجني غلالها الشركات الروسية، وسياسياً من خلال فرض حل سياسي وفقاً للرؤية الروسية، وهذا ما ترفضه الولايات المتحدة الأميركية، ومن خلفها أوربا حتى الآن، أي لن تتيح لبوتين ردّ الاعتبار إلى هيبة روسيا المُهانة واستعادتها للدور الذي تتطلع إليه، وهذا ما أشار إليه الدكتور برهان غليون في كتابه المذكور آنفاً حين تحدث عن صراع غربي روسي على الأرض السورية.
لعله من الصحيح أن تكون المصالح هي النواظم الأساسية لسلوك الدول حيال القضايا الراهنة، ولكن فضلاً عن المصالح، ثمة مسائل أخرى ذات صلة وثيقة بماهيّة كل نظام، ولئن كان نظام الأسد هو أحد الأنظمة التي تطغى فيها نوازع الإجرام والتوحّش على منطق المصالح، فإن النظام الحاكم في روسيا مسكون بتلك النوازع ذاتها أيضاً.