التفاوض لغة المنطق يرسم به العقلاء الخلافات على جميع الصعد السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية، بعد انطلاق الثورة السلمية في سوريا حاول بعض المعارضين السوريين تقديم بعض الحلول والمقترحات لإيجاد تصور معقول يتضمن البدء بإصلاح سياسي متدرج يمنع الوطن من الانهيار والتدمير، ضرب النظام عرض الحائط كل تلك المحاولات بل انتقل إلى القمع والاعتقال واستخدام الحل الأمني بجميع أدواته في وجه المتظاهرين، لاحقا تيقنت غالبية السوريين أنَّ عائلة الأسد هي أساس المشكلة لذا تم طرح تصور يراعي الحساسية الطائفية وأنَّ هدف الثورة الانتقال إلى حكم ديموقراطي وليس استهداف الطائفة العلوية فتم طرح شخصيات علوية بديلة تقود المرحلة الانتقالية على رأسها د.عارف دليلة أو العماد علي حبيب وبهذا الطرح تكون الثورة راعت أيضا الحساسية العسكرية.
بعد رفض النظام كل تلك الطروح والمقترحات قرر السوريون بناء مؤسساتهم المدافعة عنهم بداية بالمجلس الوطني السوري ولاحقا تم الانتقال إلى الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية برغبة دولية بحجة عدم واقعية المجلس الوطني وتصلبه وعدم قدرته على التفاوض والقبول بحلول واقعية.
كان لقاء جنيف في 30 حزيران – يونيو 2012 الأول على صعيد إصدار تصور متكامل للحل السياسي في سوريا حضره الأمين العام للأمم المتحدة بان كيمون والأمين العام للجامعة العربية ووزراء خارجية أميركا وروسيا وتركيا وقطر والعراق والكويت وبريطانيا والصين وفرنسا وممثل الاتحاد الأوروبي، صدر عن الاجتماع بيان "جنيف 1" المتضمن نقاط كوفي آنان الستة والذي يتحدث ضمنه عن مرحلة انتقالية.
بعد تشكيل الائتلاف الوطني في تشرين الثاني – نوفمبر 2012 واعتراف 114 دولة في مراكش به كجهة ممثلة للثورة السورية، استخدم نظام الأسد السلاح الكيميائي في الغوطة في آب – أغسطس 2013 مما تطلب إصدار القرار الأممي 2118 في أيلول – سبتمبر 2013 والذي فرض واقعًا دوليًا جديدًا استدعى توافقًا أميركيًا – روسيًا أدى إلى انعقاد الجولة الأولى للعملية التفاوضية سميت جنيف 2 في كانون الثاني – يناير 2014.
بلغ عدد جولات التفاوض ثمانية، عقدت ست منها ما بين شباط – فبراير 2017 وكانون الثاني – يناير 2018، لينتقل لاحقًا المبعوث الأممي دي مستورا للتفاوض على الدستور تحت ما يسمى اللجنة الدستورية والتي بدأت أعمالها في تشرين الأول 2019 وكانت جولتها الخامسة والأخيرة في كانون الثاني – يناير 2021.
هذه هي حكاية العملية التفاوضية السورية والتي يمكن تسميتها بالملهاة التفاوضية.
نعيش خلال هذه الفترة عملية تفاوضية أخرى تتعلق بالملف النووي الإيراني، كانت من ضمن أولويات بايدن مما تتطلب البدء بها في المئة يوم الأولى لحكمه؛ يلاحظ المراقبون الفارق الكبير بينها وبين ما حصل سابقا على صعيد التفاوض في الملف السوري.
سوف أستعرض بعدة نقاط مقارنة أولية بين فيينا وجنيف لنعرف لماذا لا تزال العملية التفاوضية السورية تراوح في مكانها!!؟
أولا- في فيينا هناك رغبة واضحة للوصول إلى نتائج حاسمة يمكن ملاحظتها من خلال تصريحات الرؤساء ووزراء خارجية الدول المعنية، بينما هناك عدم اكتراث جلي للحسم في مفاوضات جنيف وكذلك الأمر على صعيد اللجنة الدستورية وصل حد التلاشي.
ثانيا- في فيينا الجولات متتابعة بفواصل قصيرة، فخلال أقل من شهر عقدت ثلاث جولات والجولة الرابعة حدد موعدها في 7 من الشهر الجاري مع زيارات مكوكية ولقاءات جانبية وخطوط تفاوض موازية في الدوحة ومسقط، بينما في جنيف الجولات متباعدة ومنقطعة، فبين جنيف 2 وجنيف 3 كان هناك انقطاع تجاوز العام؛ ورغم صدور القرار الأممي 2254 في كانون الأول – ديسمبر 2015 فإنَّ التفاوض لم يستأنف إلا بعد أكثر من عام في شباط – فبراير 2017 وكذلك الأمر بالنسبة للجنة الدستورية التي تعتبر إحدى القضايا التفاوضية الفرعية، استغرق عقد خمس جولات سنة وثلاثة أشهر رغم عدم إنجاز أي شيء يذكر خلالها.
ثالثا- في فيينا هناك توافق أميركي – روسي – أوروبي للوصول إلى نتائج سريعة وحاسمة بينما انعدم هذا التوافق في ظل لامبالاة دولية واضحة.
رابعا- في فيينا هناك وضوح في الاستراتيجية لدى الجميع مع معرفة للمساحة التفاوضية من قبل جميع الأطراف، بالمقابل الاستراتيجية التميعية للنظام والروس كانت مكشوفة ذكرها وليد المعلم "سنغرقهم في التفاصيل" ولم تستطع المعارضة مجابهتها باستراتيجية حازمة وحاسمة.
خامسا- الدور الروسي في مفاوضات فيينا مساعد على إبرام الاتفاق يناقضه موقفها في مفاوضات جنيف، حيث تعتبر عاملا معرقلا لتنفيذ القرارات الدولية 2118 و2254.
سادسا- هناك وسائل ضغط قوية ممارسة على الطرف الإيراني تجبره على تقديم تنازلات وإبرام الاتفاق بينما لم تمارس ضغوط مؤثرة على نظام الأسد تجبره على الانخراط فيها مع ممارسة ضغوط لافتة على المعارضة للحضور ليكتمل المشهد التفاوضي المخادع للرأي العام العالمي.
في المحصلة المشهد التفاوضي في فيينا حقيقي وجاد والجميع حريص على الوصول إلى نتائج، بينما المشهد في جنيف وهمي مخادع؛ ساهم الممثلان الأمميان دي مستورا وكذلك بيدرسن بذلك والذي لم يعد يتكلم عن المفاوضات الأساسية وإنما انحصر تركيزه على مفاوضات اللجنة الدستورية الفرعية التي ضرب نظام الأسد عرض الحائط بها وبجميع القرارات الدولية المتعلقة فانتقل إلى إجراء انتخابات هزلية دون أي إجراء حاسم اتجاهه.
من خلال المقارنة بين مفاوضات فيينا وجنيف نلاحظ البون الشاسع بهذا الصدد مما يتطلب من مؤسسات المعارضة التي تقود المشهد التفاوضي القيام بمراجعة عميقة من حيث الاستراتيجية المتبعة وكذلك الأمر بالنسبة للشخصيات الممثلة لها والتي قدمت أقصى ما يمكن تقديمه من أفكار ورؤى دون أن تحصد أية نتائج تذكر.
قد يتذرع البعض بأن الملف النووي ملف حساس على صعيد السلم والأمن الدوليين لكن أليس مقتل قرابة مليون سوري وتهجير أكثر من ثلاثة عشر مليونًا وهجرة السوريين إلى أوروبا واستخدام السلاح الكيميائي في سوريا واستمرار امتلاك نظام الأسد الإرهابي لكميات غير معلومة منه، يشكل تهديدًا حقيقيًا للسلم في منطقة شديدة الحساسية عالميًا.
التفاوض السياسي عملية تقنية مهارية يقودها السياسيون، لا يجيدها إلا القلة استأثر عليها البعض بطريقة أو بأخرى ولا نرى في الأفق أية محاولة أو دعوة للقيام بعملية تقييم للمرحلة السابقة حتى نتجاوز حالة اللاتوازن المستمرة، فهل نتدارك ذلك وننتقل إلى تحقيق أهداف ثورتنا بدراسة جميع السيناريوهات والوسائل المؤثرة قريبًا فيضطر النظام وأصدقاؤه إلى الانخراط في تفاوض حقيقي والدول الصديقة لدعمنا، أم نستمر في حالة اللامبالاة!!!؟