في مطلع عقد التسعينيات من القرن الماضي، وفي موعد محاضرة أستاذ الأدب الحديث للسنة الرابعة أطلّ علينا رئيس قسم اللغة العربية آنئذ، ليقدم لنا أستاذاً جديداً، كان يلبس لباساً غير معتاد في قسم اللغة العربية. لا نعرف من أين هبط علينا! وتاريخه العلمي غير معروف لنا، ولم يكن اسمه بين المبتعثين أو المعيدين أو تم تعيينه من خلال مسابقة ما، وما زاد من ريبتنا لاحقاً حول الأستاذ الجديد، مجيء المستخدم لمسح طاولة القاعة قبل محاضراته، وإحضار كرسي أنيق له!
شكَّل لباس هذا الأستاذ مشكلة لنا، نحن الشباب، "أصدقاء البنطال الواحد"، وكذلك أساتذة القسم، خاصة أن قسم اللغة العربية كان فيه من الفقراء والدراويش والمعترين ما فيه! وأذكر أنَّ صبية هفهف قلبي لها قالت لي: أرجو أن تلبس طقماً يشبه طقم هذا الأستاذ في حفلة عرسنا، ولتأكيد حبّي لها، أنا المغامر الحالم، الذي ضيّع شطراً من عمره يبحث عن تاريخ ميلاده بين برجي القوس والحوت، قد تملكتني الجرأة لأسأل الأستاذ: من أين يشتري لباسه؟ فقال لي: يا بني، لباسي هذا يعادل راتبك حين تتوظف لسنوات، أنصحك أن تهتم بدراستك! لم أخبر الصبية عن إجابته، بل قلتُ لها: واعدني أنه سيقدّم لي طقم العرس هدية، مرت الأيام، وذهب كلٌّ منا إلى سبيله، دون طقم عرس!
كان الحدث الغريب الآخر هو زيارة "هيثم ضويحي" رئيس اتحاد الطلبة آنئذ إلى مكتب أستاذنا في القسم أكثر من مرة، وهذا غير معتاد في الثقافة السورية، فأصحاب المناصب هم الذين يزارون، ويوقف على أبوابهم، وهيثم ضويحي كان معيداً في القسم، لكننا لم نره من قبل، شخصياً: كانت مفاجأتي أكبر من زملائي! إذ لم تتمكن الرسائل التي حمَّلني إياها وجهاء "آل ضويحي" وهم جيراننا في منطقة الميادين، من مساعدتي على الدخول إلى مكتبه. كان دافعي لرؤيته ليس الحصول على وظيفة، أو دعم ما! بل الحصول على "سرير" في المدينة الجامعية فحسب!
علمياً، ضممنا، نحن الطلبة، الأستاذ الجديد إلى شريحة أساتذة "الدواء الأحمر" الذي لا ينفع ولا يضر، فلم يكن الرجل مختلفاً عن زملائه من هذه الشريحة، ممن اتخذوا قراءة فصول من كتبهم منهجاً لهم في محاضراتهم، و "ما زاد في الطابور نغماً" أن الأستاذ كان يتحدث عن أفكار علمية قديمة من مثل "الواقعية في الرواية السورية"، وهو ما ينمّ عن أنه درس في دولة اشتراكية في زمن مضى، وفي الوقت نفسه، كان هناك في مرحلة التسعينيات في الجامعات السورية جيل سوري جديد ذو مزاج عال للتغيير، صارت تغريه المناهج النقدية الحديثة مثل: السيميائية والبنيوية والتفكيكية!
لذلك حسبناه على تلك الفئة التي ابتُعثت بناء على توجيهات رفعت الأسد إلى الاتحاد السوفييتي أو سواه من دول شبيهة في النصف الأول من الثمانينيات بهدف "تأميم التعليم العالي لمصلحة الاشتراكية السوفييتية" وقد عانت الجامعات السورية من فساد معظمهم، خاصة قسم الصحافة في جامعة دمشق، حيث حصلوا على الدكتوراه من هناك، بل أحضر عددٌ منهم الصبية التي ساعدته بإنجاز الدكتوراه، بصفة زوجة، وما لفت نظرنا آنئذ أن معظمهم عاد دون أن يتمكن من إتقان اللغة الروسية!
مؤسسة التبغ والصندوق الأسود للنظام
بعد أسابيع قليلة من بدئه بالتدريس في قسمنا كان (سيريان تايمز) بائع الجرائد الأشهر في كلية الآداب يحاول بيع أكبر كمية ممكنة، وهو يصيح (سجاير تايمز، مؤسسة التبغ تايمز، الأدب العربي تايمز) مشيراً إلى صورة أستاذنا مرفقة، بخبر في جريدة تشرين، وقد تم تعيينه مديراً للمؤسسة العامة للتبغ!
لم تصدق عيوننا ذلك، وأخذنا نتساءل: لماذا لم يتم تعيينه مديراً في وزارة الثقافة أو اتحاد الكتاب؟ وما علاقة أستاذ في الأدب العربي بإدارة مؤسسة التبغ؟
لم نكن ندرك كذلك آنئذ أن مؤسسة الريجي شأن مخلوفي، أسدي، مافيوي. ولم نكن نعرف بُعدها التاريخي، وخصوصيتها في الساحل، كما وضّح جوانب من ذلك لاحقاً حنا بطاطو في كتابه الشهير (فلاحو سوريا/ أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شاناً وسياساتهم) ولم نكن نعرف شيئاً عن حجم الصراعات بين رفعت الأسد ومحمد مخلوف حول المؤسسة والسجائر المهربة، وكيف كانت السجائر تُتَخَذ طريقاً لتمويل بعض عمليات الاغتيال في الخارج، أو لتوريد الأسلحة عبر شبكات دولية.
ما خطر ببال عامة السوريين أن انتقال محمد مخلوف لإدارة المصرف العقاري منتصف الثمانينيات وصفقة التراكتورات مع رومانيا كذلك جزء من تمويل دولي لعمليات خارجية، حيث جمع آلاف الدولارات من الفلاحين السوريين كدفعة أولى ومات معظمهم ولم يروا الجرار الموعود، في الوقت الذي كانت تعاني المؤسسة المعنية بإنتاج جرار الفرات من مشكلات توريدية ومالية!
ولم يكن كثير من السوريين يدركون أنه حين تخلى مخلوف عن المصرف العقاري وفرّغ جزءاً من وقته للأسواق الحرة (راماك) كان ظاهر الحدث للسوريين هو سهولة جني الأرباح، لكن باطنه كان تمويل صفقات دولية وغسيل أموال، بل يكشف أحد الأشخاص الذين سهَّلوا له صفقات دولية مع شركات أميركية كبرى أنَّ محمد مخلوف، في محاولة للتهرب من العقوبات الدولية، قدم بياناته المصرفية إلى بنك “HSBC” في سويسرا عام 2015، باعتباره وكيلًا لشركة التبغ الأميركية “فيليب موريس” مالكة العلامة التجارية “مارلبورو”، ووكيلاً لشركة “ميتسوبيشي” اليابانية، ووكيلاً لشركة “كوكا كولا” الأميركية، في سوريا، وهذا سهّل عليه تحريك أموال السوريين المسروقة من "عائلة الأسد مخلوف" بين الدول والتحايل على العقوبات، وتمرير الصفقات.
مع بداية ثورة 2011 في سوريا استعادت مؤسسة التبغ المكلفة بالإشراف على توريد السجائر إلى سوريا دورها مرة أخرى، لتكون أحد صناديق النظام السوداء، حيث تمّ توكيل أمور تهريب السجائر في مرحلة الثورة السورية لرجل الأعمال أيمن جابر، كي يستطيع تغطية مصاريف (ميليشيا صقور الصحراء) وسواها، وتخلت مؤسسة التجارة الخارجية عن مهمتها الرئيسية، بناء على توجيهات عائلية داخلية من بيت الأسد/مخلوف، لذلك ما إن خفّ الصراع المسلح في سوريا واطمأن النظام إلى بقائه على كرسي الحكم حتى عادت أجنحة من عائلة الأسد للسيطرة مرة أخرى على تهريب التبغ والكبتاغون، وبالتالي كان لا بدّ من انحسار دور ميليشيا صقور الصحراء، مما قاد إلى الإطاحة بـ أيمن جابر الذي اعتقد أنَّ من حقه قطع الطريق على تهريب أي نوع من التبغ، لا يدخل تحت إشرافه، مما سبب إشكالاً في مدينة اللاذقية، حيث تبادلت مجموعات تتبع لطرفي التهريب الرئيسيْين إطلاق النار في شوارعها في السنوات الأخيرة أكثر من مرة.
هذا الجانب المافيوي هو جانب آخر ساهم في بقاء الحكم الأسدي في سوريا، حيث ربط مصيره ومساره بشبكات تهريب عالمية، يقدم لها الخدمات التصنيعية واللوجستية، وفي الوقت نفسه تمكنه هي من تهريب الأموال وتمويل الصفقات مع إيران بهدف التهرب من استحقاقات العقوبات الأميركية وسواها. وهو ما يكون محوراً للحديث لدى لقائك مع أي دبلوماسي غربي، إذ يكشف لك كم تجذر هذا النظام منذ زمان طويل مع مافيات عالمية، كان كثير من السوريين يظنون أن رأس النظام لا علم له بها، أو أن الأمر يعود إلى عمليات تهريب بسيطة أو سواها، وقد كان الشخص الرئيس في ربط النظام في المافيات الدولية هو محمد مخلوف وفريق عمله، هذا مسار آخر سري بدأ منذ مجزرة حماة وترحيل رفعت الأسد لاحقاً؟
هل يخطر ببال أحد أن يُعاد شخص متهم بتفجير إرهابي في أوروبا إلى سوريا، كي يغدو أستاذاً في جامعة دمشق؟
لم نكن نحن الطلبة نعرف صلات أستاذنا الأنيق بالعائلة الحاكمة، أو مصاهرته لعائلة مخلوف، إلى أن غاب فجأة عن قسم اللغة العربية عام 1994 ليصبح معتقلاً في النمسا، ويتدخل حافظ الأسد شخصياً للإفراج عنه، ويهدد بقطع العلاقات الدبلوماسية مع النمسا، بل يغدو في مرحلة حكم بشار الأسد أحد أوراق التفاوض مع المخابرات الألمانية، إبان استجواب محمد الزمار بعد أحداث 11 سبتمبر، الذي كانت تربطه صلات عميقة مع الطيارين الثلاثة محمد عطا ومروان الشحي وزياد جراح!