أفاد اليمين الأوروبي من وسائل التواصل الاجتماعي في مسعاه الشعبوي عبر تبسيط لافت للقضايا، ووعود بتحقيق أقصى تطلعات الجمهور، من خلال الترکيز على حالة استقطاب "الأسود والأبيض"، وانعكس ذلك في الانتخابات البرلمانية الهولندية بشكل لافت، إذ حقق ذلك اليمين نتائج فاقت آخر استطلاعات الرأي بضعف عدد المقاعد البرلمانية (37 مقعداً من 150).
في صباح اليوم التالي 22-11-2023 بعد فوز اليمين المتطرف بالعدد الأكبر من المقاعد لحزب واحد في الانتخابات البرلمانية مما يؤهله لرئاسة الحكومة، أخذ كثير من الهولنديين يغيرون بروفايلاتهم إلى اللون الأسود، ويتظاهر عدد منهم في كل من أوترخت وأمستردام منددين بفوز اليمين، فيما الشوارع شبه خالية احتجاجاً على هذا اليوم الأسود في تاريخ هولندا كما وصفه كثيرون، وتعنون الصحف ما حدث بأنه زلزال، ويخرج فرانس تيمرمانز رئيس حركة اليسار والعمال (حصل على 25 مقعداً من 150) للقول: نحن معكم لا تخافوا، كتفاً إلى كتف ضد التطرف، هولندا للجميع، مرحباً باللاجئين، في حين زميلك في العمل يخجل أن يضع عينه في عينك، ربما يعزيك كل هذا ويعيد شيئاً من الأمل بإنسانية الإنسان! لكن سيقف أمامك نحو مليونين ونصف مليون هولندي من 13 مليوناً، أي ربع عدد من توجهوا إلى الصناديق الانتخابية أخذوا هذا الخيار اليميني، الذي وسمه هولنديون عديدون بالفاشي، وفضلوا أن يختاروا حركة يرأسها حامل "البكالوريا المهنية" على أساتذة الجامعات والمفكرين ومؤلفي الكتب!
تتساءل كيف استطاعت هذه الحركة اليمينية من جذب مليونين ونصف المليون، خاصة أن الحزب الفائز لا يوجد فيه أعضاء مسجلون، بل هو حركة شعبية تعتمد على العمل التطوعي، ومنذ انشق خيرت فيلدرز (ترامب هولندا كما يصفه كثيرون) عن الحزب الحاكم حالياً (الشعب الديمقراطي) عام 2004 رفض أن يكون في حزبه أعضاء مسجلون، فضل الإخلاص له عبر أكثر من عشرين عاماً وقطع علاقته بأمّه التي لم ترض عن أفكاره، فهرع بعد فوزه إلى ملجأ المسنين الذي تعيش فيه ليقول لها: ها قد أصبحت مرشحاً لرئاسة الوزراء كما وعدتك بطفولتي فاغفري لي!
فيلدرز ذاته ترك الجانب الديني بصفته رومياً كاثوليكياً مبكراً ليجعل دينه اللاتدين وكراهية الإسلام، مفضلاً العيش تحت الحماية الأمنية منذ أكثر من عشرين عاماً على أن يكون كائناً طبيعياً، وكلما كان يتعرض لتهديد ومحاولة اغتيال أو محاكمة نتيجة هجومه على مقدسات الآخر، كان يزداد ضراوة في تطرفه!
فيلدرز ذاته ترك الجانب الديني بصفته رومياً كاثوليكياً مبكراً ليجعل دينه اللاتدين وكراهية الإسلام، مفضلاً العيش تحت الحماية الأمنية منذ أكثر من عشرين عاماً على أن يكون كائناً طبيعياً، وكلما كان يتعرض لتهديد ومحاولة اغتيال أو محاكمة نتيجة هجومه على مقدسات الآخر، كان يزداد ضراوة في تطرفه!
ربما متأثراً بحالة العزلة التي عاشها حين كان يعيش ويعمل في المستوطنات الإسرائيلية قبل 43 عاماً مدة عامين، ثم تجول في بلدان عربية عدة ليأخذ قراره الحاسم منذ ذلك الوقت: الكراهية للمسلمين والثقافة العربية، وإسرائيل هي النموذج الديمقراطي، ولعل هذا يفسر الاحتفال الكبير بفوزه إسرائيلياً، وقد نص برنامجه الانتخابي على أنه لا يوجد شيء اسمه فلسطين، عاصمة فلسطين هي عمان والأردن بلدهم، ويجب تهجيرهم إليه، ولا بد من حل السلطة الفلسطينية سريعاً، ونقل السفارة الهولندية إلى القدس مباشرة كما وعد صديقه أرئيل شارون ذات يوم في زياراته السنوية التي لم تنقطع!
فيلدرز "ملك الاستقطاب" العاشق للأضواء، كما يصفه أحد الكتب التي كتبت عنه، أضاف كثيرا من المعاني السلبية لليمين المتطرف، بعيداً عن الحمولة التاريخية لمصطلح اليمين المتطرف وارتباطه بتاريخ الثورة الفرنسية وروج لأفكار عنيفة اجتماعية وظالمة من مثل: الإسلام دين الصحراء ولا بد من فرض ضريبة على النساء المحجبات!
هناك جرعات عنفية كثيرة كما ورد في البرنامج الانتخابي (45 صفحة) لحركة خيرت فيلدرز أبعد من فكرة التهديد العرقي من الآخر ضد الجماعة الأصلية، والحفاظ على الهوية الوطنية، لتصل إلى:
أموالنا لنا وليست لأوربا أو أفريقيا، وهولندا ليست للمسلمين أو للسود، وضرورة تجميد الهجرة وإعادة المجد للدولة الأمنية ضمن القانون، والتحيز الديني المسيحي والدعوة للنقاء وإعادة المجد للعرق الأبيض.
وكذلك رفض العولمة، وطرد تركيا من الناتو وتجميد طلبها للالتحاق بالاتحاد الأوروبي بسبب الاختلاف الثقافي والفكري والاقتصادي والعرقي، وإعادة النظر بالعلاقات مع الدول التي تتخذ من الشريعة مرجعية لها، ووقف المساعدات التنموية وتصنيف سوريا دولة آمنة، وكل من يذهب إلى بلاده في إجازة من اللاجئين منعه من العودة والانسحاب من لوائح اللجوء في الاتحاد الأوروبي، واتفاقية الأمم المتحدة للاجئين واستعادة السيطرة على الحدود الهولندية، وترحيل المهاجرين غير الشرعيين، خاصة المجرمين منهم مباشرة، وخفض عدد الطلاب الأجانب، وسحب تصاريح اللجوء المؤقتة للسوريين القادمين من مناطق آمنة.
وضرورة إعادة هوية هولندا المسيحية واليهودية وإلغاء مجلس الشيوخ وإلغاء دعم اليسار والفن والمنظمات غير الربحية وإلغاء منصب المنسق الوطني لمكافحة العنصرية والتراجع عن الاعتذار عن تاريخ العبودية وتصرفات الشرطة وعدم نشر المعلومات الحكومية باللغة العربية والتركية أو ترجمتها. والتأكيد على أن هولندا تحتاج إلى جوامع أقل وإسلام أقل، لا مدارس إسلامية وحظر ارتداء الحجاب في الدوائر الرسمية البوركيني على الشواطئ.
جانب آخر من لعبة خيرت فيلدرز الشعبوية تمثلت في إنهاء الكراهية اليسارية لأبطال التاريخ الهولندي وإبقاء مرافقي بابا نويل من السود وفرض ضرائب على الملك والملكة! وإبقاء طائرات إف 16 لهولندا وليس تقديمها لأوكرانيا والانسحاب التدريجي من الاتحاد الأوروبي عبر استفتاء ملزم، وعدم رفع علمه في هولدنا والاكتفاء بالعلم الهولندي وإلغاء دعم البرلمان الأوروبي (يسميه السيرك الأوروبي)!
أما في الشؤون الداخلية اليومية فحضرت خلطة شعبوية لا يستطيع تحقيها "بابا نويل" في شركة خاصة فكيف يكون الأمر في دولة لها سياساتها، من مثل خفض فوري للضرائب، وزيادة الحد الأدنى للأجور ورفع مساعدة الطاقة وزيادة تعويض السكن للفقراء وخفض سن التقاعد وإدخال 10 آلاف شرطي جديد وتجريد المجرمين من الجنسية وتشديد العقوبات عليهم وإعادة المجد للسجون والتشهير بالمجرمين ومزيد من الرعاية الصحية للمسنين وحل مشكلة السكن بشكل دائم، وتسريع إجراءات الترخيص بعيداً عن قواعد التنمية المستدامة، والانسحاب من اتفاقيات المناخ وكل ما يخص انبعاثات النتروجين والاهتمام بالمرزاعين بعيداً عن قواعد الاتحاد الأوروبي والسماح بكل أنواع الصيد البحري وإلغاء الذبح الحلال، وإعادة السرعة إلى الطرق السريعة إلى 140 بعيداً عن المحافظة على البيئة!
بعيداً عن التهاني التي تلقاها بسرعة البرق من إسرائيل واليمين الأوروبي من ماري لوبان إلى الهنغاري اوربان السؤال المهم: من سيعمل معه ومن سيشكل الحكومة؟ هو يحتاج إلى أغلبية ليس لديه نصفها واليسار رفض التعاطي معه، بقي الحزب الحكم (الذي انشق عنه قبل 20 عاماً) وحزب العقد الاجتماعي، فما هي التنازلات التي سيقدمها أم أنها بدأت؟ حين قال وفقاً لتسريبات صحفية، محاولاً التخلص من مرموزيته الشيطانية وفقاً للصحافة الهولندية: أنا سأكون رئيس وزراء هولندا كلها لذلك سأضع الأفكار المتطرفة جانباً وأنشغل ببناء هولندا، وأنا كنت سياسياً والآن سأكون دبلوماسياً!.
كيف سيحافظ على ناخبيه ووعوده الانتخابية بالمحافظة على الهوية الوطنية ورفض العولمة وإعادة المجد للحكومة الهولندية، فيما الاقتصاد الهولندي في مجمله يقوم على التصدير والاستثمار في الدول الأخرى!.
اليمين المتطرف الهولندي في وجه من وجوهه تعبير عن أزمات العالم الغربي بعد مرحلة حرب أوكرانيا وغزة والتغيرات الاقتصادية والعمل في مرحلة الاقتصاد الرقمي.
وفي جانب آخر صرخة عن حدود الرفاهية وحدود الفردانية وما هي نهاية عالم المثليين، وتساؤل عن إمكانية إعادة الزمن إلى الوراء. وهو في جانب من جوانبه زفرة أخيرة في وجه جيلي "زد وإكس" اللذين لديهما مفاهيم مختلفة. ربما هذا يفسر كون الكثير من الأصوات التي حصل عليها فيلدرز جاءته من الريف الهولندي.
وفي جانب آخر فإن اليمين واليسار هو تعبير عن مصالح يومية وتوق الناس للتغيير وربما "التصويت العقابي" ضد الحكومة الهولندية الحالية التي تباطأت في الحلول!
اللاجئون السوريون في المشهد الهولندي تأخذهم الحيرة شمالاً وجنوباً، ففي الوقت الذي يمكن وصف الكثير منهم بأنهم "يمينيون محافظون بدوافع دينية ومدنية ووطنية وقومية"؛ فإنهم يجدون أن ما يحمي خياراتهم في اللجوء والخصوصية هي الأحزاب اليسارية الهولندية!
فيما تقابل الأحزاب الهولندية اليمينية يمينية السوريين بالنفور، على الرغم من اختلاف اليمينية السورية عن اليمينية الهولندية الشعبوية المتطرفة، وفقاً لقاعدة الغالب والمغلوب، أو إنْ شئتَ الضيف والمستضيف وها هنا: اللاجئ ابن البلد!
يبدو مصطلح "اليمين" لكثيرين أول سماعه منفراً وكريهاً، لكن معظمنا يعيشه ويشارك فيه، والسؤال المفتوح: كيف نجعل من "يمنيتنا"يمينية قانونية وناعمة وغير مؤذية للآخر مثلما نطلب منه ذلك!
يرى باحث هولندي متابع للمشهد السوري، أنه من واجب السوريين الهولنديين قبول أفكار يمين الوسط الهولندي ومحاولة مد أيادي الحوار مع اليمين المتطرف ليس للتخلص من "يمينيته" بل للتخفيف منها، لأنكَ لا يمكن أن تطلب من آخر أن يتخلص من "يمنيته" كلياً وأنت بدرجة ما وبمفهوم ما "يميني محافظ"! ويتابع مازحاً أن عائلة سورية من معارفه، الرجل من جذور يمينية والمرأة من جذور يسارية تطلقا مؤخراً نتيجة خلافاتهما الفكرية وعدم قدرتهما على العيش المشترك!