حضَرَ اليمن والعِراق ولبنان في خطاب الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله الجمعة الماضي. وغابَ النّظام السّوريّ.
على مدى أكثر من ساعةٍ تحدّثَ نصر الله عن الوضع في المنطقة والحدود الجنوبيّة للبنان. لكنّ المُفارقة أنّ النّظام السّوريّ كانَ الغائب الأبرز عن كلمته. لم ترِد كلمة سوريا ولو مرّة، أو على الهامش.
دائماً ما كانَ حزب الله يُسمّي النّظام السّوريّ بـ"عماد محور المُقاومة". ويكيلَ له قصائد المديح وأهازيج "الانتصارات". لكنّ الوضع كان مُختلفاً هذه المرّة. فالذي يجري في المنطقة كبيرٌ جدّاً. ونتائج أيّ حسابات خاطئة ستكون كارثيّة بالنّسبة لإيران ومحورها.
كثيرة هي الأسباب التي غيّبَت دمشق عن كلمةِ نصر الله، وعن المشهد الميدانيّ أيضاً.
أوّلاً: اتصلَ رئيس دولة الإمارات محمّد بن زايد برئيس النّظام السّوريّ بشّار الأسد يومَ الثّامن من تشرين الأولّ / أكتوبر، في اليوم التّالي لعمليّة "طوفان الأقصى".
نقلَ بن زايد "نصائح" للأسد بأن يُبقي جبهة الجولان هادئة، وأن يعمل على ضبطِ أيّ عملٍ قد تقوم به الفصائل الإيرانيّة انطلاقاً من الأراضي السّوريّة.
كذلك سُجِّلَ اتصالٌ بين الأسد والرّئيس الرّوسيّ فلاديمير بوتين. حملَ هذا الاتصال الرّسالة عينها للأسد، على أساس أنّ أيّ عملٍ من الجولان سيُقابله ثمنٌ باهظٌ.
لم يُسجّل في مناطق سيطرة النّظام السّوريّ أيّ "تحرّكات شعبيّة" جدّيّة لدعم المُقاومة الفلسطينيّة في غزّة. وهذا إن دلّ علي شيء، فيدُل على أنّ النّظام منَعَ أيّ تضامن مع حركة حماس
ثانياً: خرجَ الأسد قبل أشهر قليلة في مُقابلة مُتلفزة، ليصِفَ حركة "حماس" بالنّفاق والغدر. ومن منّا لا يذكر المشاهد المُصوّرة من مجزرة التّضامن والتي يقول بها أحد عناصر مخابرات الأسد لأحد السّجناء "أنت من حماس؟" قبل أن يُجهِزَ عليه بالرّصاص.
ثالثاً: لم يتغيّر موقف النّظام من "حماس"، على الرّغم من محاولات إيران وحزب الله إعادة العلاقة بينهما إلى سابق عهدها. من يعرف كيف يُفكّر نظام الأسد، يُدرِك مدى "الحقد" الذي يحمله ضدّ كل من يخالفه، وإن حاول "المُصالحة".
رابعاً: لم يُسجّل في مناطق سيطرة النّظام السّوريّ أيّ "تحرّكات شعبيّة" جدّيّة لدعم المُقاومة الفلسطينيّة في غزّة. وهذا إن دلّ علي شيء، فيدُل على أنّ النّظام منَعَ أيّ تضامن مع حركة حماس.
خامساً: تُعتبَر جبهة الجولان خاصرةً رخوة بالنّسبة لمحور إيران. إذ تبعدُ الهضبة المُحتلّة 60 كم فقط عن العاصمة دمشق. ويُمكن القول إنّ هذه المنطقة تُعتبر "ساقطة عسكريّاً". إذ عبرها الجيش الإسرائيلي في حرب تشرين 1973 وكادَ يصل إلى قلب العاصمة لولا التنازلات التي قدّمها النّظام السّوريّ، وتدخّل الجيش العراقيّ في اللحظات الأخيرة.
سادساً: لا يُنكر اثنان خطورة الوضع الدّاخليّ بالنّسبة للنظام السّوريّ. فقبل أيّام قليلة من بدء الحرب في قطاع غزّة، كانَت السّويداء مُنتفضة لأسابيع، وصارَت يدُ النّظام ملويّة بسقوط سرديّة "حماية الأقليّات". وكان الوضع في الجنوب السّوريّ، وتحديداً في درعا آخذ بالتّصاعد ويُنذر بتجدّد الثّورة من مهدها.
يُضاف إلى كلّ هذا التّململ الذي يسود الأوساط المؤيّدة للنظام السّوريّ بفعل الوضع الاقتصاديّ المُتردّي، وظهور حالات الثّراء الفاحش على قادة الميليشيات وتجّار المُخدّرات والشّخصيات المُستفيدة بعلاقتها به.
سابعاً: زارَ وفدٌ من قيادة ميليشيات الحشد الشّعبيّ العراقيّ العاصمة السّوريّة دمشق، وسمعوا من مسؤولي النّظام رفضاً قاطعاً لأيّ محاولة لاستعمال الأراضي السّوريّة ضدّ إسرائيل. وهذا ما دفَع قادة الحشد الشّعبيّ لتحويل أنظارهم نحوَ الحدود العراقيّة – الأردنيّة.
ثامناً والأهمّ: وصلَت تحذيرات جدّية من الولايات المُتحدة وإسرائيل إلى إيران وحزب الله والنّظام السّوريّ.
تُفيد هذه التحذيرات أنّ توسيع الحرب أو محاولة توسيعها في المنطقة، أو تحريك جبهة الجولان سيُقابل بردٍّ إسرائيليّ مباشر على النّظام السّوريّ قد تصل إلى حدّ إسقاط النّظام، وكذلك إغلاق طريق البوكمال – بيروت مرّةً وإلى الأبد.
وصلَت هذه الرّسائل بالنّار إلى المعنيين. فقصفت إسرائيل منذ السّاعات الأولى لبدء حربها ضدّ غزّة مطاريْ دمشق وحلب غير مرّة.
دفعَت إيران وأذرعها اللبنانيّة والعراقيّة والأفغانيّة أثماناً كبيرة، بشريّة وماليّة واقتصاديّة باهظة لحماية النّظام السّوريّ منذ تدخّلها الواسع في سنة 2012. الواضح أنّ محور إيران ليسَ على استعدادٍ للتضحية بالنّظام السّوريّ لحماية "حماس".
دائماً ما كانَت سوريا الممرّ الأساسيّ والخطّ اللوجستي الرّئيسي لحزب الله الذي يستعمله لنقل وتصدير السّلاح والذّخائر والمُقاتلين
الفارقُ كبيرٌ بين الطّرفيْن من حيث الأهميّة للمحور الإيرانيّ:
- يُعتبر النّظام السّوريّ ركناً أساسيّاً في مشروع الهلال الشّيعي الذي تقوده إيران.
- يُشكّل الوضع الدّاخليّ في سوريا مصدرَ قلقٍ لطهران وموسكو. إذ تتخوّفان من تحرّك القوّات الأميركيّة وفصائل "قسد" بشكلٍ واسع في حال اشتعلت جبهة الجولان.
- دائماً ما كانَت سوريا الممرّ الأساسيّ والخطّ اللوجستي الرّئيسي لحزب الله الذي يستعمله لنقل وتصدير السّلاح والذّخائر والمُقاتلين.
- تُعتبر سوريا بوّابة إيرانيّة نحوَ العمق العربيّ، وورقةً تستعملها لابتزاز الأميركيين عبر استهداف قواعدهم أو التلويح بالمساس بأمن إسرائيل.
النّتيجة أنّ سرديّة "المقاومة" سقطَت عند أّوّل اختبارٍ حقيقي لنظريّة "وحدة السّاحات" و"تماسك محور إيران". غُيِّبَ "النّظام السّوريّ" عن خطابات قادة المحور، وصارَت حمايته أولى من حماية غزّة التي تُباد عن بكرة أبيها بعد أن ظنّ "الغزّيون" أنّ لديهم سنداً حديديّاً، ليكتشفوا أنّ هذا السّندَ لا يكون إلّا لقمع الشّعوب، لا لنصرتها.