اعتقد كثيرون أن إعلان النظام من طرف واحد فتح معبر إنساني في منطقة سراقب للعبور الإنساني للاجئين والنازحين المتواجدين في منطقة إدلب للعودة إلى مناطقهم، أنها واحدة من مخرجات اجتماع أستانة-15، وضمن التوافقات السرية التي جرت بين الدول الضامنة وخاصة بين روسيا وتركيا، مشككين بحقيقة فتح هذا المعبر والنوايا المبيتة من ورائه، فضلا عن الحديث حول الثمن الذي يمكن أن يكون مقابل الموافقة على فتح هذا المعبر، وتشجيع النازحين للعودة، رغم إدراك جميع الأطراف بشكل كامل، بأنه ليس من الوارد عبور أي نازح ومهجر إلى مناطق تسيطر عليها قوات النظام، حيث إن الأخير هو الذي تسبب بمأساة النازحين والمهجرين، فكيف يمكن لهم العودة إلى هذه المناطق والقرى والبلدات بعدما قتل واعتقل وهجر ودمر، فليس من المنطقي أن يعود أي أحد إلى هذه المناطق.
تصر روسيا منذ فترة على موضوع عودة اللاجئين المهجرين إلى قراهم وبلداتهم ومدنهم، معتقدة أن هناك أطرافا دولية تمنع عودتهم في ظل وجود رغبة منهم من أجل العودة، وربما تتجاهل روسيا أنه من غير الممكن أن يعود هؤلاء إلى هذه المناطق، ولا يعقل أن تكون قد ضللت من قبل أي طرف أو جاهلة بأنه من الصعب عودة هؤلاء في ظل عدم وجود أي مؤشرات على إمكانية ذلك في ظل الظروف الحالية، فتدفع موسكو في كل مرة بالحديث عن موضوع عدم تسيس عودة السوريين إلى قراهم وبلداتهم، بهدف تصوير عودتهم بأن الأمور عادت لطبيعتها في البلاد، وأن النظام حسم الأوضاع العسكرية والميدانية وعاد الاستقرار مجددا للبلاد، ضمن المساعي التي تقدم عليها روسيا بشكل دائم لتعويم النظام وتشريعه، حيث إن هناك جهودا متواصلة ميدانيا وسياسيا ودوليا من أجل تقديم النظام على أنه الوحيد القادر أن يقود البلاد إلى بر الأمان والاستقرار.
الجانب التركي يدرك أن العودة الشعبية بغياب التواجد الميداني لأنقرة لن يكون ممكنا، لأن النظام غير مضمون العواقب
من الواضح أن روسيا ربما طرحت هذا الموضوع في اجتماعات سوتشي الأخيرة، وحاولت أن تحقق فيه مكاسب وخاصة من الجانب التركي، وربما لديها أهداف محددة من وراء ذلك، ولكن من المؤكد أن مبادرة فتح المعبر هو من طرف واحد فقط، أي من طرف النظام، دون أن يكون هناك اتفاق عليه، لأن الجانب التركي يدرك أن العودة الطوعية الشعبية للنازحين واللاجئين، تتطلب ضمانات نوعية جدا مختلفة عن تلك التي منحتها روسيا للمعارضة في مناطق أخرى من البلاد مثل مناطق الجنوب والغوطة الشرقية وأرياف حمص وحماة، حيث لم يكن هناك التزام بالضمانات والتعهدات، فضلا عن أن الجانب التركي يدرك أن العودة الشعبية بغياب التواجد الميداني لأنقرة لن يكون ممكنا، لأن النظام غير مضمون العواقب وكانت له تصريحات عدة مرات بأنه يفضل سوريا من المؤيدين وإن كان عددهم ملايين قليلة، وتهديده الدائم بملاحقة جميع المدنيين وقوى المعارضة التي ثارت ضده، وبالتالي ونتيجة لعدم حصول أي توافقات في هذا المجال، فمن المؤكد أن روسيا بادرت إلى فتح هذا المعبر من طرف واحد، بعد حديث المبعوث الروسي ألكسندر لافرنتييف في مؤتمره الصحفي الختامي في سوتشي، بضرورة عدم تسييس عودة اللاجئين، وربما من هنا كان يقصد أن هناك أطرافا دولية تمنع عودة اللاجئين والنازحين، دون النظر في الأسباب الحقيقية التي تمنع عودة هؤلاء.
وبما أن لافرنتييف تحدث بإسهاب عن الانتخابات الرئاسية التي يعتزم النظام إجراءها في الأشهر المقبلة واعتبارها مشروعة وداعيا المجتمع الدولي للاعتراف بها، في ظل رفض دولي كبير واضح، فإن محاولات تعويم النظام تبلغ ذروتها من قبل روسيا، إذ إنه من الصحيح أن روسيا تسعى لاستقطاب النازحين وترغيبهم بالعودة بأي شكل كان، من أجل توظيف ذلك أمام المجتمع الدولي، وصحيح أن الهدف هو إظهار تطبيع الأمور في البلاد وانتهاء العمليات المسلحة، ومن المؤكد أن روسيا تهدف من خلال أي عبور وعودة للنازحين، الضغط على الدول المانحة، من أجل تقديم الأموال اللازمة لإعادة الإعمار، وتمويل المشاريع، ودعم جهود العودة، كما أنها تسعى إلى رفع العقوبات، وكل ذلك معروف وبشكل كبير لدى أغلب المتابعين والمراقبين، ولكن ثمة أهداف أخرى من قبل روسيا من فتح المعبر، وهي ذات أبعاد عديدة، وإن كان إعلان فتح المعبر من الناحية الإنسانية، إلا أن هناك أهدافا إلى الوصول للتبادل التجاري المستقبلي، وتوظيف ذلك لصالح النظام.
من الواضح أن روسيا ترغب من خلال العبور الإنساني كما تسميه وعودة النازحين والمهجرين، زيادة الزخم على الانتخابات الرئاسية التي يعتزم النظام إجراءها، وتفيد مصادر مطلعة أن روسيا تريد أن يعود النازحون والمهجرون إلى مناطقهم وبلداتهم، والمشاركة في الانتخابات الرئاسية، ورفع عدد الناخبين قدر الإمكان عبر إجبار كل من يعود للمشاركة في الانتخابات المسرحية، وإظهار الأرقام المرتفعة والتأييد الذي سيحصل عليه بشار الأسد من خلال التحضير للأرضية اللازمة لتعزيز أرقام المشاركة، واستغلال عودة النازحين وأرقامهم من أجل الزج بهم أمام المجتمع الدولي في إطار التعويم الذي تعمل عليه، وهي مبادرة من جانب واحد بأهداف غير محمودة، وهذا لا يقدم الضمانات الكافية للعائدين الذين إن عادوا وبالفعل شاركوا بالانتخابات فإن عاقبتهم لن تكون مضمونة، ولن يمنع عنهم الخطر الذي سيكون محدقا بهم دائما.
ومن الأهداف الأخرى بعيدة المدى، حديث الجانب الروسي المتكرر في الاجتماعات السابقة لأستانة، عن تفعيل التجارة والحركة الإنسانية بين مناطق سيطرة المعارضة والنظام، إذ إن الهدف من هذا هو تطبيع العلاقات بين الطرفين، وضمن هذا الإطار، تسعى لإظهار أن العلاقات والتبادل التجاري وحركة الناس تؤدي إلى تلقائية في عكس انتهاء الأوضاع المضطربة في البلاد واستقرارها تمهيدا للحديث عن أن الأمور عادت لطبيعتها واستغلال هذه الحالة أمام الدول المانحة وخاصة أوروبا وأميركا لتعزيز مكانة النظام، وبالنهاية التهرب من الحل السياسي وفق القرار الأممي 2254 الذي يفرض تأسيس حكم انتقالي، وإعداد دستور جديد وإجراء الانتخابات وفق ذلك.
سيكون المعبر الذي فتحه النظام والذي لم يشهد حركة عودة وعبور من قبل النازحين واللاجئين والمهجرين، دليلا إضافيا شعبيا على رفض الشعب السوري للأوضاع السائدة
ويظهر كل ما سبق أن روسيا لا تزال تعول على المماطلة في الحل السياسي وتأخيره قدر الإمكان لإكساب النظام مزيدا من الشرعية وجعله الطرف الوحيد القادر على قيادة البلاد للاستقرار المنشود، وإيهام الدول الغربية بذلك، من خلال المضي قدما في إجراء الانتخابات الرئاسية، ومحاولته استقطاب النازحين وتوظيفهم في هذا الإطار، ولكن من دون حل سياسي حقيقي قائم على تقاسم السلطة عبر حكومة انتقالية لديها كاملة الصلاحيات تعمل على تهيئة الأرضية اللازمة لإقرار مسودة دستور عبر الاستفتاء، وإجراء الانتخابات وفقها، كما تنص القرارات الأممية، فمن المستحيل أن يعود أي لاجئ ونازح ومهجر إلى منطقته، وسيكون المعبر الذي فتحه النظام والذي لم يشهد حركة عودة وعبور من قبل النازحين واللاجئين والمهجرين، دليلا إضافيا شعبيا على رفض الشعب السوري للأوضاع السائدة، وسيزيد من تعقيد وضع النظام وحلفائه، ولن يؤدي إلى تحقيق النتيجة المرجوة من هذه الخطوة، وسيؤدي إلى التأكيد للجانب الروسي على أنه لا يوجد أي تسييس لعودة النازحين واللاجئين، بل استمرار رفض النظام.
في النهاية لن تقبل لا تركيا ولا الدول الأوروبية ولا حتى أميركا أن يكون الحل وفق المنظور الروسي القائم على تعويم النظام وتشريع انتخاباته، ومحاولته استقطاب اللاجئين، ولن تبدأ عملية العودة إلا وفق حل سياسي حقيقي، وليس عبر الالتفاف على الحلول المطروحة التي تدفع المعارضة إلى تحقيقها من خلال جهودها وانضباطها والتزامها بتلك الخطوات التي توافقت عليها دول العالم.