كلّما ازدادت المحنة السورية استعصاءً وكلّما أوغل الواقع السوري في السواد، ازداد الشعور لدى شطر كبير من السوريين بأن اشتداد المحنة ينبغي أن يكون حافزاً للتفكير والعمل، وليس مدعاة للركون لليأس والقنوط، ومهما كانت علائم البؤس شديدة الحضور في المشهد السوري – حياتياً واجتماعياً وسياسياً – إلّا أن ثمة فضاءات سورية ما تزال شديدة النصاعة، وهي ما جسّدت على الدوام حوافز ونقاط قوّة متجدّدة تتماهى مع المفهوم الإبداعي للثورات.
ولعل من أبرز نقاط القوة هذه أمرين اثنين، ما يزالان بعيدين عن معاول الخراب التي طالت كل ما هو جميل في البلاد السورية، يتمثل الأمر الأول بعدالة القضية السورية ومقاومتها لعوامل التشويه طوال اثنتي عشرة سنة خلت، ويتجلى الثاني بحيوية ونقاء الضمير لدى أبنائها وبناتها كباعث للتفكير. ولعل هذين الحاملين القيميين المنبثقين من المعين القيمي للثورة السورية هما حيّز القوة الذي انبثقت عنه (وثيقة المناطق الثلاث) في الثامن من آذار الجاري، وتضمّنت مبادئ ومحدّدات يمكن أن تكون منعطفاً في مسار الثورة يتيح للسوريين استعادة فضائهم السياسي وكذلك استعادة المبادرة الوطنية، وبالتالي تمكينهم من التفكير والعمل وفقاً لما تقتضيه المصلحة الوطنية السورية وليس وفقاً لما تريد الاستمرار به القوى الخارجية المتسلّطة وأدواتها المحلية.
لعل تلك المناطق تختزل إرثاً رمزياً نضالياً لجميع السوريين، يستحضر التاريخ النضالي في الماضي والحاضر
لا بدّ قبل التطرّق إلى فحوى الوثيقة من الإشارة إلى ما تحيل إليه دلالة المكان في تلك المبادرة، إذ إن المناطق الثلاث التي تم فيها الإشهار عن الوثيقة هي (ريف حلب الشمالي والقريّا ودرعا) ولعل تلك المناطق تختزل إرثاً رمزياً نضالياً لجميع السوريين، يستحضر التاريخ النضالي في الماضي والحاضر، فبلدة (كفر تخاريم) في الشمال السوري هي مسقط رأس إبراهيم هنانو أحد رموز النضال الوطني ضد المستعمر الفرنسي، و بلدة القريّا هي مسقط رأس سلطان باشا الأطرش قائد الثورة السورية الكبرى، أما مدينة درعا فقد انطلقت منها شرارة ثورة السوريين في آذار 2011.
ولئن كان لهذه المناطق الثلاث السبق بالإعلان عن هذه المبادرة، إلّا أن مضمون الوثيقة يؤكّد أن رمزية المكان تحيل إلى دعوة لجميع المناطق والمدن السورية الأخرى للانضمام إلى هذه المبادرة التي لن تكتمل إلّا بسوريّتها، أعني تجاوزها لإطارها المحلّي، وتجذّرها في الفضاء السوري العام.
تتضمن الوثيقة خمسة مبادئ أو محدّدات، يحيل أولها إلى أحقّية السوريين باستعادة السياسة (تأميمها) ممّن احتكرها أو اغتصبها أو عدّها امتيازاً خاصاً به دون الآخرين، بما أن الثورة هي مُنتج شعبي سوري عام، فإن تحرير المصير إنما يتزامن بتحرير القرار والمبادرة وأدوات العمل من مغتصبيها أيضاً، سواء أكان المغتصِبُ جماعة أو حزباً أو ميليشيا أو دولة، وبالتالي فإن المسعى نحو تحرير السياسة هو تجسيد لشعار السوريين: (سوريا لينا وما هي لبيت الأسد) وفقاً لنص الوثيقة.
فيما يحيل المبدأ الثاني إلى التأكيد على أن طبيعة المواجهة بين الشعب ونظام الحكم في سوريا هي صراع بين النزوع إلى الحرية والكرامة والأمان وبين الإصرار على ممارسة القتل وامتهان الحقوق من جانب نظام الحكم القائم، فهو صراع ذو طابع وجودي بين الحياة بكل ما فيها من قيم الحق والخير وبين قوى التسلّط والشر.
ويؤكّد المبدأ الثالث على مفهوم الوحدة الوطنية الذي لا يتحقق إلّا حين تكون سوريا لجميع السوريين، فسوريا فوق الطوائف والملل والإيديولوجيات، و(إن السعي إلى تقسيم سوريا عمل غير مشروع أيّاً كانت ذرائعه، ويجب مناهضته بكل السبل الممكنة).
ويؤكّد المبدأ الرابع على أهمية التنسيق والحوار بين السوريين كوسيلة مثلى للعمل والتفاهم المشترك، وكما كانت (التنسيقية) هي الإطار المشترك للتواصل بين السوريين في بداية الثورة، فلتكن عودة السوريين أيضاً إلى مزيد من التنسيق القائم على نواظم إنسانية تتجاوز الهوّيات الفرعية التي لا تكتسي بعدها الإنساني إلّا بانضوائها تحت المظلة السورية الجامعة.
فيما يؤكّد المبدأ الخامس على ضرورة تعزيز الثقة بين السوريين باعتبارها (أداة تأسيس سياسية تؤطر اجتماعنا الوطني، وتعيد بناء رأسمال اجتماعي وطني، يمهد الطريق لـ الوحدة في الكثرة، واحترام التعددية وترسيخها قناعةً وعملاً، ويمهد الانتقال للديمقراطية فكراً وسلوكاً) بحسب نص الوثيقة.
ولا بدّ من الإشارة إلى ان مضمون الوثيقة إنما جسّد مجموعة من المفاهيم من مثل (تأميم السياسة – السوري العادي – القبالة السياسية – تأميم المعارضة) كانت محطّ اهتمام الباحث الدكتور مضر رياض الدبس على مدى السنتين الماضيتين من خلال مجموعة من المقالات كان قد نشرها في موقعَي (العربي الجديد وتلفزيون سوريا) وذلك في سياق مساهمته لإعادة الاعتبار للقضية السورية عبرَ إعادة النظر ليس في المبادرات الميدانية فحسب، بل بأدوات التفكير ووسائل العمل أيضاً، وهذا يستدعي بالضرورة – وفقاً للباحث رياض – القطع مع المرجعيات وأطر التفكير التقليدية التي ما تزال تتحكم بنواظم تفكير وسلوك المعارضات السياسية الرسمية، إذ لا بدّ – والحال كهذا – لأية مبادرة جديدة للعمل الوطني أن تنبثق من تفكير جديد، هو تفكير (السوري العادي) الذي يستلهم وعيه من كشوفات ثورة آذار 2011، وليس من إرث الإيديولوجيات البائدة.
من أهم عوامل الخذلان للحراك الشعبي العظيم في العام 2011 هو غياب الأطر السياسية القادرة على تحويل المنجز الثوري الشعبي إلى مواقف سياسية داعمة للقضية السورية
ولا بدّ من الإشارة أيضاً إلى أن تزامن صدور (وثيقة المناطق الثلاث) مع استمرار الانتفاضة الشعبية في جبل العرب وكذلك مع استمرار الحراك الشعبي في درعا ومدن الشمال السوري يمنحها أهميّة نوعية، وتتجلّى تلك الأهمية بضرورة تلازم أي مُنجَز ثوري ميداني بحراك سياسي يوازيه ويرتقي إلى تطلعات المتظاهرين ويجسّد أهدافهم ويكفل حضورهم وتمثيلهم في طرحه لأية قضية تمسّ مصيرهم المشترك، ولعله لم يعد خافياً على السوريين أنّ من أهم عوامل الخذلان للحراك الشعبي العظيم في العام 2011 هو غياب الأطر السياسية القادرة على تحويل المنجز الثوري الشعبي إلى مواقف سياسية داعمة للقضية السورية، فكانت النتيجة المذهلة تكمن في المفارقة المؤلمة بين عظمة تضحيات السوريين وبين ضحالة المنجزات، بل وكوارث المآلات السياسية الراهنة.
إن (وثيقة المناطق الثلاث) إذ تتماهى في خطابها وتوجهاتها مع الحراك الشعبي السوري، وتسعى لاستلهام الوعي المتجدد لثورة السوريين، وكذلك إذ تؤسِّسُ تصوراتها وأفكارها على مفاهيم فكرية وسياسية ذات صلة ببعدٍ معرفي متجدّد وليس على عوالق إيديولوجية عقيمة، فإنها بذلك تتيح للسوريين فرصةً للعودة إلى التقاط مبادرتهم الوطنية من جديد. لعله من الصحيح أن القضية السورية باتت بالغة التشعّب وأنه لا يمكن تجاهل الدور الإقليمي والدولي بمفاصلها، ولكن لعله من الصحيح أيضاً أن مجابهة التحكّم الخارجي وأدواته بالقضية الوطنية لا بدّ أن تنطلق من بناء داخلي سوري جدير بالقوة وجدير بالاحترام.