ربما بدا -من نافل القول- أن منظومة المصالح باتت هي الموجّه الأقوى لسياسات الدول واصطفافاتها الإقليمية والدولية سواء في هذا الحلف أو ذاك المحور، وذلك في ضوء هيمنة معايير القوّة الاقتصادية وتسيّدها على أية اعتبارات قيمية أخرى، ولعل هذا المنحى في السياسات الحديثة لا يلبث أن يتحوّل في غالب الأحيان إلى استراتيجية نفعية تسهم في ترسيخ مفاهيم القهر والانسحاق وامتهان التسلّط على حقوق الشعوب من دون أي رادع إنساني أو أخلاقي، وهكذا تغدو مفاهيم الحريات وحقوق الإنسان ومجمل القيم الكونية التي يتغنى بها العالم الحديث مجرد شعارات تُخفي تحتها الكثير من مظاهر الجشع والتوحّش وابتذال كرامة البشر.
تغدو إسرائيل المظلة الضامنة للأمن والاستقرار، فضلاً عن كونها هي الضامن الفعلي لسلامة الحكومات المنضوية تحت تلك المظلة، ألم تكن إسرائيل موضع استغاثة نظام دمشق منذ انطلاق الثورة السورية؟
وليس من المستغرب –وفقاً لهذه البراغماتية الوقحة– أن تغدو الوضاعة القيمية ضرباً من الحكمة بفعل دوافع المنفعة والتعطّش الشديد لحيازة المال والقوّة. وفي ظل هذه الأنماط من العلاقات التي تحكم العالم يبدو أن القضايا العادلة للشعوب المُضطَهدة هي أولى الضحايا، باعتبار أن أصحاب القضايا على الغالب الأعمّ يستمدون مقوّمات وجودهم من عدالة قضاياهم، وقوتهم من إيمانهم وإخلاصهم لتلك القضايا، وهذه جميعها لا تجدي نفعاً من دون أن تنهض على مقوّمات القوة المادية على الأرض والقادرة على مقارعة مصالح الآخرين، أليس هذا هو حال القضية الفلسطينية على مدى خمسة وسبعين عاماً، ألم تتحوّل إسرائيل من كيان عنصري غاصب منبوذ في نظر العالم إلى دولة تكاد تكون مركزاً لاستقطاب العالم الشرق أوسطي، ومن كيان مُحتلّ تأسّس على مبدأ الاجتثاث والإرهاب إلى واحة يحاول الجميع التقرّب منها لالتماس الأمان والطمأنينة، وإلّا فما الدافع لهرولة العديد من الحكومات العربية لإقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل؟ هل لأن الكيان الصهيوني يجسّد ثقلاً اقتصادياً مفصلياً في حياة شعوب المنطقة؟ بل ربما يبدو العكس من ذلك، ولكن ما هو مؤكد أن الحاجة إلى إسرائيل لدى جميع الدول أو الأنظمة العربية المتهافتة إلى تل أبيب هي حاجة أمنية ذات صلة وثيقة ليس بمستقبل شعوب تلك البلدان وحيوات مواطنيها بقدر ما هي مرتبطة بالحفاظ على تلك الأنظمة واستمرار بقائها واستمراريتها في السلطة، وبهذا المسعى نحو أمن السلطات والحفاظ على ديمومتها تغدو إسرائيل المظلة الضامنة للأمن والاستقرار، فضلاً عن كونها هي الضامن الفعلي لسلامة الحكومات المنضوية تحت تلك المظلة، ألم تكن إسرائيل موضع استغاثة نظام دمشق منذ انطلاق الثورة السورية؟
يؤكّد السياق التاريخي للسياسات الأميركية أن إيران باتت على رأس (محور الشر) بعد زوال الاتحاد السوفييتي في بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي، وذلك نظراً لما تجسّده إيران من تهديد وخطر لا يطول المصالح الأميركية فحسب، بل هو يُنذر بتقويض الأمن والاستقرار في المنطقة برمتها، وكما بيّنت سيرورة نمو وتعاظم الكيان الإسرائيلي وتدرّجه من مصدر للتوحّش إلى ملاذ للأمان والديمقراطية، فإن التعامل الدولي مع إيران ربما يسير بالاتجاه ذاته، مع وجود فارق أساسي يتمثّل بكون التوحّش الإسرائيلي كان مثار عطف على الدوام من جانب الحكومات الغربية ومن الولايات المتحدة الأميركية على وجه الخصوص، فيما كان سلوك إيران هو مثار ريبة وسخط دائمين من جانب العالم الغربي، إلّا أن جميع أشكال التعبئة الإعلامية الغربية ضدّ إيران لم تكن حائلاً دون سيطرة طهران وتحكّمها بمفاصل ومصائر أربع دول إقليمية – العراق – سوريا – لبنان – اليمن – وكلّما تعاظم الخطر الإيراني أُتيح لطهران مخارج أخرى ليس للانكفاء إلى الخلف بل للتمدّد من جهة، ولشرعنة هذا التمدد من جهة أخرى، هكذا تحوّل التدخل في شؤون العراق بعد عام 2003 إلى احتلال فعلي، وهكذا أيضاً بات الخطر النووي الإيراني مدخلاً لإقامة تفاهمات ذات منحى استراتيجي بين طهران والغرب، أمّا على مستوى دول المنطقة فقد أضحى الخطر الإيراني سبيلاً لتبدّل نوعي في السياسات العربية، إذ لم تعد المظلة الإسرائيلية هي الضامن الأوحد الذي يلبي الحاجة الأمنية لسلامة أنظمة الحكم، وذلك بوجود الشرطي الإيراني الذي أصبح صاحب العصا الأكثر هيبةً ومخافةً، فبعد أن كان الرهان معقوداً طيلة سنوات مضت على تقليص النفوذ الإيراني في المنطقة عبر زوال مرتكزاته الطائفية والسلطوية سواء في سوريا أو لبنان على سبيل المثال، إلّا أن هذا الرهان بات مُوجَّهاً لطرق الأبواب العريضة لطهران، لرغبةٍ شديدة الوضوح بإقامة علاقات وطيدة مع إيران تفي بالحاجة الأمنية التي غالباً ما تبدو أنها ذات طابع مؤقت لا أكثر، نظراً لطبيعة الاستراتيجيات الإيرانية القائمة على التوسع المستمر والتي لم تتبدّل منذ مجيء الخميني إلى السلطة عام 1979 إلى الآن.
أنقرة لا يغيب عنها البتة مدى استحكام القبضة الإيرانية بمفاصل نظام الأسد، بل هي أكثر دراية من غيرها بتموضع الميليشيات الإيرانية
ما من شك بأن النفوذ الإقليمي المتزايد لإيران بات المحرّك الأكبر لسياسات الأنظمة العربية في المنطقة، وما من شك أيضاً بأن المشهد السوري كان المجال الأكثر وضوحاً لردّات الفعل العربية حيال سياسات طهران، فتارة يصبح نظام دمشق مصدراً للإرهاب والمخدرات لارتباطه العضوي بإيران، وبالتالي يجب العمل على محاصرته وتقويضه، إلّا أنه يصبح تارة أخرى بوابة عبور آمنة للوصول إلى المحجة الإيرانية لالتماس الأمان والطمأنينة، وربما جسّد التقارب الأردني مع نظام الأسد مثالاً واضحاً لذلك، وليس ببعيد أن تكون الخطوات المتتالية لدولة الإمارات في هذا المنحى ذاته، ويبدو أن تكرار هذا السيناريو الذي يلبي حاجات مُستعجَلة ولكنها مؤقتة، بات نهجاً مغرياً –بما يتيحه من براغماتية شديدة الميوعة- لدول ذات وزن إقليمي لا يقل شأناً عن إيران، كتركيا التي تتقمّص –حيال خطوتها التطبيعية مع نظام الأسد– خطاباً مكروراً ومُستهلكاً بهدف حشد المبررات لانعطافتها الراهنة، إذا يعيد هذا التبرير ما تعاورت عليه الأنظمة العربية التي استدارت نحو الأسد بحجة احتوائه وإبعاده عن السطوة الإيرانية، وكأن علاقة إيران بنظام دمشق حديثة العهد، وأن إيران قد تركت المزيد من المفاصل الفارغة التي تنتظر تركيا لتملأها أو تقبض عليها، أو كأن إيران قد تركت أمام رأس النظام الكثير من الخيارات في تحديد تحالفاته واصطفافاته، علماً أن أنقرة لا يغيب عنها البتة مدى استحكام القبضة الإيرانية بمفاصل نظام الأسد، بل هي أكثر دراية من غيرها بتموضع الميليشيات الإيرانية في الجغرافيا السورية ومدى النفوذ التي تحوزه تلك الميليشيات، والحق أنه كان حريّاً بتركيا وغيرها من الدول العربية الإنصات -ولو لبرهة- إلى صوت الضمير، من أجل التفكير والمساهمة بحماية الشعب السوري من سطوة الأسد، قبل التفكير بحماية الأسد من سطوة إيران.