لقد أفصحت التداعيات التي أعقبت مجزرة جنديرس في الحادي والعشرين من آذار الماضي، عن جملة من ردّات الفعل التي تمحورت في شرائح القوى المدنية والسياسية والثقافية، ربما تجسد الكثير منها في حالات الإدانة والاستنكار والتنديد بالجهة التي مارست القتل، وأظهرت في الوقت ذاته حالة عامة من التعاطف المجتمعي مع أسرة الضحايا وذويهم، ولعل ذلك لا يحتاج إلى مزيد من الوقوف باعتباره سلوكاً اجتماعياً له رصيد كبير في الإرث المجتمعي السوري، إلا أن ما يمكن الوقوف عنده، وعلى وجه الخصوص ضمن الأوساط السياسية والثقافية السورية، هو موقف ذو طيف واسع، لا يكتفي بالإدانة والتنديد بالقاتل والتعاطف مع الضحايا وذويهم فحسب، بل يحاول الخروج من السياقات الانفعالية المحكومة بأعرافها الاجتماعية وردات الفعل، ليؤسس لخطاب منبثق من مقاربة جدية ودقيقة لجذر المشكلة التي لن يكون الإطار المكاني للمجزرة (جنديرس – عفرين) حدودها القصوى، ذلك أن ما شهده يوم الحادي والعشرين من آذار من اعتداء على أرواح مواطنين كورد من جانب أشخاص منتمين إلى فصيل عسكري لم يكن ظاهرة طارئة أو عرضية بل هو نموذج دائم التكرار لاعتداء ممنهج على المواطنين السوريين على امتداد الجغرافية السورية، ولعل هذا التعميم ليس تمييعاً لما حدث في جنديرس كما يراه البعض، بل هو تأكيد على وحدة الحق والكرامة الإنسانية التي لا تتلون وتتبدّل بتبدل الأمكنة والأشخاص، إذ ما من عاقل ينكر أن وجود أربع سلطات أمر واقع على الجغرافية السورية إنما هو نتيجة حتمية لفشل المشروع الوطني السوري الذي يحلم به السوريون الطامحون إلى التغيير والديمقراطية.
ولئن كانت عوامل الخراب في المشهد السوري ليست على الدوام ذات منشأ محلّي، وأعني عدم تجاهل العوامل الخارجية سواء أكانت إقليمية أو دولية، ولكن لديّ اعتقاد راسخ بأن العطالة الذاتية وبؤس الوعي لدى قطاعات واسعة من جمهور النخبة يجعل من الحالة السورية مناخاً طارداً لأي خطاب وطني من شأنه أن يوازي تضحيات الشعب السوري على امتداد أكثر من عقد، ولكنه في الوقت ذاته – وهذا مؤسف بالطبع - يكون جاذباً لكل أشكال الوباء الفكري والاجتماعي والثقافي، والتي غالباً ما تتحوّل إلى ممارسات وسلوكيات تترك تداعيات كارثية على السوريين.
إن ولاء تلك السلطات وانتماءها إلى الجهات المشغلة والداعمة لها أقوى بكثير من ولائها لمحكوميها من السكان والمواطنين
لعل القاسمين المشتركين الأكثر أهمية بين سكان مدينة عفرين وسكان بقية المدن السورية جميعها هو أنهم جميعاً يخضعون لسلطات لم يكن لهم أي دور في اختيارها، بل هي جميعها تسلّطت على رقابهم وفقاً لمبدأ حيازة القوة، والقاسم المشترك الثاني هو أن جميع تلك السلطات تعمل بالوكالة عن مشغليها الدوليين أو الإقليميين، وبالتالي فإن ولاء تلك السلطات وانتماءها إلى الجهات المشغلة والداعمة لها أقوى بكثير من ولائها لمحكوميها من السكان والمواطنين، ووفقاً لذلك لن تكون للمواطنين السوريين أية حصانة، لا قانونية ولا أخلاقية من شأنها أن تكون رادعة لجور وظلم سطوة تلك السلطات، إذ إن استمرار الانتهاكات ما يزال مستمراً على امتداد الجغرافية السورية، إذ شهدنا الاعتداء على أرواح الناشطين والإعلاميين في مدينة الباب، كما شهدنا قنصَ المواطنين واعتقالَهم وإخفاءَهم في مناطق سيطرة قسد في منبج والطبقة والرقة، كما شهدنا المزيد من التصفيات الجسدية في إدلب، أما مناطق سيطرة النظام فتكاد تتفوق على باقي قريناتها من السلطات باعتبار نظام دمشق هو المصدر الرئيس لكل أشكال السلوك الدموي وأنماط الإبادة.
لكن على الرغم من ذلك كله فإن معاناة مدينة عفرين كانت معاناة مركّبة، فمن جهة أولى هي تتعرض لظلم عام تشاطرها فيه معظم المدن السورية، إلّا أنها من جهة أخرى تتعرّض لظلم من نوع آخر بسبب كرديتها، إذ إن الغالبية السكانية للأكراد في هذه المدينة جعلها – ومنذ آذار من العام 2018 – عرضة لاعتداء مستمر طال الأرواح والممتلكات وبلغ مرحلة التهجير القسري والتغيير الديمغرافي الذي هو جريمة تقرها كل الشرائع والقوانين، إذ إن الكردي السوري بات يُنعتُ بإحدى صفتين من جانب الفصائل المتأسلمة والظلامية، فهو إما انفصالي أو ملحد، أو بالصفتين معاً، وذلك لتسويغ الاعتداء عليه والانتقاص من كرامته، ولا شك في أن هاتين التهمتين تنبثقان من رواكم إيديولوجية تجد من يعزّزها ويحاول الانطلاق منها وتوظيفها بغية تبرير سلوكه العدواني اللا وطني واللا أخلاقي.
والحق أن شيوع الخطاب العقدي للإيديولوجيات التقليدية بنسختها الأكثر تخلّفاً إنما يأتي موازياً لحالة متردية من الخراب الثقافي والاجتماعي في الحالة السورية، ولا شك أيضاً في أن هذا الخراب المُتضمَّن غالباً في الخطابات العنصرية والطائفية ربما يأتي كنتيجة حتمية لفشل النخب السورية في إيجاد مقاربات جدّية لمفهوم الهوية الوطنية السورية، بل غالباً ما نجد معظم أشكال الخطاب النخبوي ما تزال تتلطّى بالهويات الفرعية ولا تستطيع الخروج منها، وعلى الرغم من النزيف الإعلامي للحديث عن مفاهيم كالديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان، إلّا أن التجلّيات الفعلية لهكذا أحاديث لا تنبئ عن مزيد من المصداقية.
مجزرة جنديرس هي مُنتج سلوكي لمنظومة حاكمة أو متسلّطة شديدة البؤس والقباحة، وقباحتها مُستمدّة من استمرار ولائها والتصاقها ببناها الفكرية والإيديولوجية
بالعودة إلى ردود الأفعال التي صدرت من المشهد السياسي والثقافي السوري، يمكن التأكيد على أن البيانات التي صدرت عن العديد من القوى السياسية من خارج الكيانات الرسمية للمعارضة، وكذلك التي أصدرها مستقلون وحملت آلاف التواقيع، أضف إلى ذلك البيانات والمواقف الصادرة عن منظمات حقوقية ومهنية سورية، إنما تنطوي جميعها على أن مجزرة جنديرس هي مُنتج سلوكي لمنظومة حاكمة أو متسلّطة شديدة البؤس والقباحة، وقباحتها مُستمدّة من استمرار ولائها والتصاقها ببناها الفكرية والإيديولوجية التي هي ذاتها كانت وما تزال الحامل الحقيقي لمعاول الهدم والخراب في الثورة السورية، وذلك من خلال تجليات سلوكها الميداني المتمثل بممارسات سلطات الأمر الواقع، وكذلك بسلوكها السياسي المتمثل بالكيانات الرسمية للمعارضة ذات الدور الوظيفي الخادم للخارج والمجافي وغير الآبه بالمصلحة الوطنية السورية. ربما انطوى هذا التشخيص على نزوع ضمني أو معلن نحو إصرار سوري على إعادة الاعتبار للمحدّدات الإنسانية والأخلاقية لانتفاضة السوريين في عام 2011، وكذلك ربما انطوى أيضاً على أن رواكم الخراب وقباحة المشهد الراهن ربما تؤدي إلى شيوع حالة من اليأس والقنوط وشعور بعدم الجدوى لدى الكثيرين، كما من شأنها أن تعزز لدى الكثيرين الامتثال والركون لما تمليه السياسات والمواقف الإقليمية الراهنة حيال العودة لاحتضان نظام الإبادة الأسدي من جديد باعتبار أن حاكم دمشق هو المنتصر في حربه على السوريين، ولكنها بالتأكيد لن تستطيع الإجهاز على ضمائر السوريين الذين يعتقدون – وهم في ذروة الشعور بالانكسار – أن الحوامل الحقيقية لثورة السوريين هي ذات جذر أخلاقي يتمثل برفض مطلق لكل أشكال الامتهان والانحطاط الإنساني، فهل بمقدور الشرط الأخلاقي الملازم لنظافة الضمير أن يكون مؤسِّساً لخطاب وطني سوري جديد؟