ربما انحرفت هوية الجامع في عصرنا الحالي كثيراً عن أصلها في النشأة وخصوصاً في العقد الماضي، حتى إنه استُملك أحياناً من البعض وكأنه إرث أخوي حصري الانتفاع. من هذا الباب تورّط البعض في خصومة صفرية أُسقِط بُعدها الزمني حول الجامع مفهوماً ودوراً.
في قرانا الصغيرة لم تكن هالة التقديس التي تحيط بالجامع مغالية في الصرامة، فهو في المقام الثاني، بعد العبادة، ملتقى كبار السن وميدان مزاحهم أمام الملأ في أيام الجُمع والأعياد، ويحدث أن يتراشقوا فيه الهمز واللمز تلاطفاً، أو يتبادلوا النكات الملغومة بالتلميحات، أو يتفاخر بعضهم على بعض بأمجاد الأيام الغابرة، مثيرين موج الضحك وهدير الحوقلة والاستغفار. وكثيراً ما أضفت وتوتة النساء التي تعلو شيئاً فشيئاً كطنين النحل جوّاً أُسريّاً وهنّ في السقيفة المُطلّة، وطالما عمّت أخبار مشاجراتهن بتفاصيلها أرجاء الأحياء والبيوت. أما للصغار فهو مضمار سباق وراء صفوف المصلّين الخلفية، وفرصة للعبة مزاوجة الأحذية المتغايرة، وملجأ من أعمال الصيف التي تلاحق صغار الفلاحين في عطلتهم المدرسية. باختصار كان الجامع صالون القرية الواسع الذي يفتح بابه لكل الأشخاص والقضايا.
لعل كثيرين سيرفضون أية محاولة لاستعادة الدور الثقافي والاجتماعي المسلوب من الجامع، بعد أن اختُزل في المعنى الضيق كمكان للعبادة! لكن الأكثر، كما أعتقد، سيرون فيها اتساقاً حضارياً لا يتناقض أبداً مع مفهوم الجامع (المغاير للمُصلّى) حيث دُرست الآداب والعلوم والفلسفة والطب والفلك... على مدى قرون.
في عاصمة، ليست عربية، خُصّص قسمٌ كمكتبة عامة ومنتدى للنشاطات الثقافية في مبنى الجامع الكبير المُنشأ حديثاً بإطلالته الجليلة على الساحة الأكثر شهرة في البلاد. إلى جوار المنتدى مقهى، يأخذ اسم الحي الشهير أيضاً، في ذات المبنى ذي الشرفات الواسعة المطلّة بدورها على كنيسة مجاورة. كأس شاي أو فنجان قهوة (مع سيجارة أو بدونها) يشعرك أن أفق الكلمة (الجامع) يتسع فيك وحولك. أناس من شتى الجنسيات والأعراق والأديان وبأزياء متباينة يتقاسمون الهواء العليل الذي تفرج عنه الأعمدة المتباعدة والسقوف العالية في فسحة من السلام بين ديانتين دارت قديماً بينهما حروب دامية لقرون طويلة. إذن، صار بإمكاننا أن ندعو الأصدقاء والأحبة إلى بيت الله، الذي يشملهم جميعاً، على فنجان قهوة دون أن نتحرّج أو يتحرّجوا من ذلك، أيّاً كان ما يدينون به أو يرتدونه.
في عاصمة، ليست عربية، خُصّص قسمٌ كمكتبة عامة ومنتدى للنشاطات الثقافية في مبنى الجامع الكبير المُنشأ حديثاً بإطلالته الجليلة على الساحة الأكثر شهرة في البلاد. إلى جوار المنتدى مقهى
بعيداً عن كل هذا ما كان أغلب الحضور ليعرف بهذا المنتدى لولا أن دُعوا إلى حفل تكريم لصاحبة دار نشر تعنى بترجمة مطبوعات باللغة العربية إلى لغتها الأم، ليجتمع من شتى المشارب حشد ليس بالكثير ولا بالقليل مما أتاح امتلاء المكان دون أن يغيب وجه أحد عن الآخر في فرصة ربما تكون من القلائل، بين السوريين، التي يلتقي فيها الأديب والفنان والصحافي والأكاديمي والمؤرخ والطامحون من السياسيين وذوو المناصب القيادية في ذات القاعة بهذا الوضوح! لم تعط مؤسسات الثورة الرسمية اهتماماً كافياً للجانب الثقافي في العمل الثوري، غير مدركين ضرورة استيعاب المثقفين والتحالف معهم، مهما كان رأيهم مخالفاً، لبناء السلطة الثورية وتعزيز شرعيتها، لذلك يسيطر إحساس بما يشبه القطيعة بينهما.
من المبهج أن نرى مثقفين وأصحاب مشاريع من بلدان أخرى يصطفون إلى جانبنا في الوقت الذي يحتد فيه خطاب العنصرية وتعلو عقيرته بوجهنا كلاجئين، ومن المبهج أيضاً أن نرى ولادة لمنظمات سورية تبدأ العمل من حيث أهمله الآخرون، وهو الالتفات إلى أصحاب الجهد الذاتي ودعمهم ولملمة شتات المبدعين لبناء الصورة الجمالية والأخلاقية لفكرة الثورة السورية وفهم مكونات الهوية الوطنية الأصيلة من حيث قدرتها على الانسجام لا الاصطدام فيما بينها. وإن تكن لمؤسسي هذه المنظمات طموحات سياسية فهذا لا يتناقض بالضرورة مع إمكانيات العمل المشترك الذي خسرت فرصتَه المؤسساتُ الرسمية. إنها خطوة بالطريق الصحيح إذا ما وُلدت بدوافع، وتبنّت بالفعل رؤى وبرامج، وطنية.
تشعر السلطة بالفزع عندما تبادر البنى المدنية والأهلية للنهوض بالأعباء التي عجزت أو تقاعست هي عن حملها، لأنها ترى في ذلك تهديداً لمتن شرعيتها من جهة الهوامش المهملة، فهي تفضل قتلها بالإهمال على إحيائها من قبل المجتمع نفسه. إذ إن السلطة الفاسدة أو العاجزة تتقاطع بنقاط كثيرة من حيث السياسات مع السلطة المستبدة، ولو أتيح لأي سلطة فاسدة أن تصفّي خصوماتها الداخلية، أو يظفر أحد أعضائها بالغلبة على زملائه، ومن ثم الإمساك بمقاليد القوة من أمن وجيش لأصبحت سلطة مستبدة بالضرورة؛ يعبر عن ذلك قول أحدهم: "الظلم كمين في النفس، القوة تظهره، والضعف يخفيه"، لذلك يرفض ممثلو السلطة في هذه الحال أي مبادرة للعمل من خارجها، ولا يكتفون بذلك، بل يحاربونها بالشعارات والتهييج الشعبوي والتلميحات ذات البعد الأمني التخويني. هذا ما يعزز الشعور بالقطيعة بينهم وبين المجتمع ومنه المثقفون، ويقوّض بالأثر الراجع شرعية السلطة التي تظن أنها تدافع عن بقائها.