ظاهرة العنف المسلح ليست ظاهرة جديدة، بل طالما كانت عرضاً لازم الثورات المسلحة حول العالم، وأخبار الثورات حول العالم تزخر بمئات القصص عن حوادث العنف والانتهاكات، ومن أشهر قصص الانتهاكات وأقربها لنا كانت انتهاكات فصائل الثورة الفلسطينية وبالخصوص إبان وجودها في لبنان، والتي أطلق عليها اصطلاحا "عنجهية الكلاشينكوف"، وتسببت هذه الظاهرة بخسارة الثورة الفلسطينية لجزء كبير من حاضنتها الشعبية في لبنان، وخاصة في معاقل الجبهة الوطنية اللبنانية والتي شكلت تاريخيا الغطاء السياسي والاجتماعي لوجود فصائل الثورة الفلسطينية في لبنان.
الثورة السورية كغيرها من الثورات المسلحة لم تكن بمنأى هي الأخرى عن هذه الظاهرة، بل باتت المظاهر المسلحة والانتهاكات المتكررة من قبل الفصائل المسلحة، أو من يستظلون تحت عباءة هذه الفصائل ظواهر شبه يومية، تشكل ضغطاً كبيراً على الحاضنة الشعبية للثورة التي ترزح أصلاً تحت كاهل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتعليمية التي خلفتها 10 سنوات من الحرب الطاحنة.
من أحدث هذه الانتهاكات كان إقدام عنصر من الجيش الوطني السوري خلال الفترة الماضية على اقتحام أحد المدارس في مدينة رأس العين على خلفية مشاجرة بين طفله وطفل ثانٍ في المدرسة، حيث قام العنصر بترويع الطلاب خلال بحثه عن الطفل الذي ضرب ابنه، قبل أن يتم إغلاق المدرسة ويعود التلاميذ إلى بيوتهم بحسب ما أفاد ناشطون في المنطقة.
وكغيرها من هذه الانتهاكات بقيت هذه الحادثة حبيسة غرف أخبار الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، ولم تجد سبيلها إلى وسائل الإعلام التي باتت تنظر إلى هذا الحوادث كروتين يومي من قبل مختلف الميليشيات المسلحة على طول البلاد وعرضها، وطالما أن هذه الحوادث لم تسفر عن سقوط ضحايا فإنها لا ترقى لأن تكون خبراً يتصدر نشرات الأخبار.
التجاوزات والانتهاكات المتكررة من قبل الفصائل المسلحة أصبحت حوادث شبه يومية، ومن السخف التعاطي مع هذه الانتهاكات على أنها حوادث فردية
ربما هذه الحوادث ليست غريبة أو طارئة على السوريين الذين عاشوا طوال أكثر من خمسين عاماً في ظل ثقافة العنجهية والاستقواء التي مارسها عناصر الأمن والمحسوبين على السلطة، والتي عززها النظام خلال سنوات الثورة السورية من خلال قطعان الشبيحة، لكن الغريب أن من يقوم بهذه الانتهاكات في مناطق سيطرة فصائل المعارضة هو من يتنطع بأنه ثائر على هذا النظام.
كما ذكرنا سالفاً فإن التجاوزات والانتهاكات المتكررة من قبل الفصائل المسلحة أصبحت حوادث شبه يومية، ومن السخف التعاطي مع هذه الانتهاكات على أنها حوادث فردية يقوم بها عناصر غير منضبطين، كما دأب النظام طوال الخمسين سنة الماضية للتعمية على انتهاكاته التي كان السوريون يدركون بأنها سياسة منظمة غايتها كسر إرادة السوريين بشكل ممنهج، بل يجب تسليط الضوء عليها بشكل أكبر وعدم محاولة تبريرها تحت أي ذريعة من قبيل أن من يقوم بهذه الانتهاكات هم ثوار وهم فوق المحاسبة، لأن انعكاساتها ستكون كارثية على الثورة السورية التي تمر بمرحلة حرجة جداً على المستوى العسكري والسياسي، لأنها تستهدف الحصن الأخير والأهم للثورة ألا وهو الحاضنة الشعبية.
ربما من الصعب القضاء على هذه الظاهرة كما هو حال معظم الثورات المسلحة في العالم وخاصة في ظل فوضى السلاح في الشمال السوري، لكن يمكن اتخاذ خطوات قد تكون كفيلة بتطويقها والحد من انتشارها.
أولى هذه الخطوات هو تسليط الضوء على هذه الانتهاكات بشكل أكبر من خلال وسائل الإعلام، وتحريك الرأي العام ضد الفصائل التي تمارس هذه الانتهاكات، وضد أي جهة عسكرية كانت أم سياسية أو إعلامية تحاول تبرير هذه الانتهاكات تحت شعار "كفوا ألسنتكم عن المجاهدين" وأن يدرك العنصر أو الفصيل أن العمل العسكري في صفوف الثورة لا يمنحه الحصانة وإن نجا من المحاسبة القضائية حالياً، فلن ينجو مستقبلاً بعد توثيق هذه الانتهاكات.
لا بد أن يدرك عناصر وقادة الفصائل أن مبرر حملهم للسلاح كان ومازال حماية المدنيين من جرائم قوات النظام وأجهزته الأمنية، وليس الاستقواء به على المدنيين العزل
أما الخطوة الثانية فهي العمل على تشكيل جهاز أمني حقيقي في مناطق المعارضة، يعمل على ملاحقة مرتكبي هذه الانتهاكات ومحاسبتهم، والكشف عن العناصر المجندة من قبل الجهات المعادية للثورة والتي تستغل الفوضى الأمنية للقيام بانتهاكات وممارسات تهدف إلى ضرب الحاضنة الشعبية للثورة السورية.
ختاماً لا بد أن يدرك عناصر وقادة الفصائل أن مبرر حملهم للسلاح كان ومازال حماية المدنيين من جرائم قوات النظام وأجهزته الأمنية، وليس الاستقواء به على المدنيين العزل، وأن أي مبرر قد يسوقه البعض من أن الثائر فوق المحاسبة هو مبرر خاطئ، لأن بوصلة الثائر هي قضيته والمجتمع الذي خرج لرفع الظلم عن كاهله، وإن أضاع الثائر هذه البوصلة سيتحول كما تحول كثيرون قبله من ثائرين في قضايا عادلة إلى رجال عصابات وقطاع طرق.