ليست الذكرى وحدها، ما يستدعي الحديث عن الشاعر عمر أبي ريشة، (1910 – 1990)، إذ إن حديث المناسبات – على الأغلب – لا يضيف شيئا إلى الكبار، بل ربما يؤذيهم، طالما أن حسّهم الإبداعي لا يركن للنمطية المتخشبة. ثمة أمرٌ آخر – إذاً – يجعل من الحديث عن أبي ريشة حاجة ضرورية تتجلى في أمرين اثنين:
الأول - هو استمرار حضور المُنجَز الإبداعي لأبي ريشة، وتأثيره بقوة، وخاصة لدى شعراء الكلاسيكية الجديدة، والثاني: هو الحاجة الدائمة للشعوب إلى رموزها الإبداعية والنضالية، لا لمجرد التغنّي بالأمجاد الغابرة، بل لأن استحضار ما هو مفيد من التاريخ، يلبي حاجة، قد يكون السوريون اليوم، هم في أشدّ الحاجة إليها، وتتمثّل في (تحرير الإرادة) وفقاً للدكتور عبد الله العروي.
نشأ أبو ريشة في فترة زمنية مأزومة شعرياً، ذلك أن القصيدة العربية ظلت عقوداً من الزمن تراوح ضمن الأطر الفنية والجمالية التي رسمها شعراء مدرسة الإحياء الأدبي، كشوقي وحافظ إبراهيم ومحمود سامي البارودي وغيرهم، ممن كان جلّ اهتمامهم يتمحور حول إعادة ملامح القوة والتماسك والنصاعة اللغوية وحسن الديباجة إلى القصيدة العربية، وإزالة ما لحق بها من ضعف وهزال وانحطاط لغوي، راكمه عصر الانحطاط.
نشأ أبو ريشة في فترة زمنية مأزومة شعرياً، ذلك أن القصيدة العربية ظلت عقوداً من الزمن تراوح ضمن الأطر الفنية والجمالية التي رسمها شعراء مدرسة الإحياء الأدبي، كشوقي وحافظ إبراهيم ومحمود سامي البارودي وغيرهم
وفي محاولة لإنقاذ القصيدة من أزمتها، ظهرت مدارس شعرية عديدة، جميعها يشغلها هاجس التجديد، واستشراف آفاق جديدة للشعر، تتجاوز نمطيته المعهودة، وتمكّنه من مواكبة التطور الذي بدا – آنذاك – يجتاح كافة الميادين الفكرية والأدبية والعلمية، ولعل من أبرز تلك المدارس، ( جماعة أبولو) التي تأسست عام 1932، وكان من أبرز شعرائها ومؤسسيها الشاعر أحمد زكي أبو شادي (1892 – 1955)، ومن شعرائها إبراهيم ناجي وخليل مطران وغيرهم، إذ حاول جماعة أبولو إخراج الشعر من نزعته الغنائية الطاغية، فكتبوا قصائد تتخللها نزعة فلسفية، وأحيانا أدخلوا الدراما إلى الشعر، إلّا أنهم لم يستطيعوا الخروج من طوق الرومانسية التي كانت بروقها تتناثر من الغرب – آنذاك – وتسري مسرى النار في الهشيم في نفوس الشعراء العرب.
وفي عقد الخمسينيات ظهرت مدرسة (مجلة شعر) التي صدر عددها الأول في شتاء 1957، ويعدّ الشاعر يوسف الخال (1916 – 1987) من أبرز شعرائها ومؤسسيها، وبعيداً عن المُدّخر الأدبي الذي كان يحوزه شعراء مجلة شعر، فإن الإشكالية الجوهرية كانت تكمن في الحوامل الثقافية والإيديولوجية التي كانت تنهض عليها، تلك الحوامل التي كانت صادمة – آنذاك – لقناعات معظم الجماهير، الأمر الذي جعل أثرها لا يتجاوز قناعات أنصارها.
ليس من الميسور الحديث عن جميع حركات التجديد في الشعر العربي، في هذه المقالة الوجيزة، كما لا يمكن بحال من الأحوال، تجاهل أثر الرواد في قصيدة التفعيلة، كنازك الملائكة والسياب وعلي أحمد باكثير، ثم محمود درويش في فترة لاحقة، وكذلك لا يمكن إغفال الأثر الذي تركه نزار قباني على تاريخ الشعر المعاصر، ولكن ما يوجب الوقوف بمزيد من التمعن عند تجربة أبي ريشة هما أمران:
أولاً – البراعة الإبداعية التي امتلكها أبو ريشة في انتشال القصيدة الكلاسيكية من أطرها وقوالبها ومضامينها التي أوشكت أن تشيخ، والانطلاق بها إلى آفاق التجديد والحداثة، دونما شعور منه بضرورة القطيعة مع الموروث، ودونما شعور منه – أيضاً – بضرورة تقديسه أو حُرْمة تجاوزه، والانكفاء عليه، بل راح منشغلاً بالبحث عن مادته الشعرية في جميع التجارب الثقافية للشعوب، باعتبارها مُشتَركاً إنسانياً تتقاطع في معينه معاناة الكائن البشري بعيداً عن انتمائه العرقي أو الديني، فكما أحب أبو ريشة موروثه الشعري، وقرأه بعمق، كذلك أحبّ وقرأ بالعمق ذاته الشعر الإنكليزي، ولم يخف إعجابه الشديد بالشعراء الرومانسيين الإنكليز، وتحديداً (بايرون – شيللي – كيتس)، كما لم يخف تأثره وإعجابه بروّاد الرمزية، وفي مقدمتهم الفرنسي (بودلير).
ما يوجب الوقوف بمزيد من التمعن عند تجربة أبي ريشة هما أمران: أولاً – البراعة الإبداعية التي امتلكها أبو ريشة في انتشال القصيدة الكلاسيكية من أطرها وقوالبها ومضامينها التي أوشكت أن تشيخ، والانطلاق بها إلى آفاق التجديد والحداثة، دونما شعور منه بضرورة القطيعة مع الموروث
لم يجد أبو ريشة في الأطر الموسيقية الخليلية عائقاً أمام نزوعه في التجديد، كما وجد غيره من الشعراء ذلك، بل تقوّمت أسس التجديد لديه من خلال (الرؤية الشعرية) التي انبثقت من ثقافة الشاعر الواسعة، وكذلك من خلال طرحه مضامين جديدة تقارب أشدّ المواقف التصاقاً بحياة الناس، وأكثرها تعقيداً وتناقضاً.
لعلّ ما هو راجح – باعتقادي – أن المُنجَز الفني المتميّز الذي نهض به أبو ريشة، إنما يتأسس على تصؤّر فكري للشاعر حيال مفهوم التجديد أولاً، إذ لم يجد أبو ريشة أن الموروث بات عبئاً عليه، أو عقبة أمام انطلاقته، ولم يجد في نفسه – كذلك – كابحاً إيديولوجياً يحول دون انفتاحه على ثقافة الآخر، ومنجزه الإنساني، ولعل قدرة الشاعر على تحييد المؤثرات الإيديولوجية عن سلامة التفكير، إنما يعود إلى إيمانه العميق بأن أبواب الثقافة هي التي تمكّن الفنان من العبور إلى مساحات الخلق والإبداع، وليس الركون للمسلّمات العقدية.
وبالفعل، حقق أبو ريشة نجاحاً باهراً – على المستوى الفني – في تجسيد هذه المحاكمة المنطقية، فكما استلهم قصيدته (كأس) من حكاية (ديك الجن)، وأبدع في مقاربته الفنية، إذ برع في ملامسة وإجلاء أشدّ المشاعر الإنسانية غموضاً وتعقيداً، كذلك حقق نجاحاً فنياً راقياً في قصيدته (معبد كاجوراو) التي استلهما من تأمله لمعبد هندي يعج بالتماثيل التي جعلها أبو ريشة كائنات تنطق وتبوح بكوامنها الداخلية. ودائماً لا بدّ من التأكيد على أن هذا النجاح الفني الباهر، كان، وسيظل مشروطاً بوجود موهبة متفرّدة، وقدرة عالية على الابتكار والخلق، وقد حازهما أبو ريشة بكل جدارة واقتدار.
الأمر الثاني الذي يجعل من الحديث عن أبي ريشة ضرورة موجبة، هو ملازم لما ذكرناه سابقاً، وأعني بذلك تجليّات القضية الوطنية في إبداع عمر أبي ريشة، الذي لم يكن في أي شطر من حياته، نائياً عن شؤون بلده وأمته.
لقد عاصر أبو ريشة مرحلة عاصفة بالأحداث السياسية في سوريا، من الاحتلال الفرنسي، واتفاقية سايكس بيكو، ثم احتلال فلسطين، فاظهر موقفاً ناصع الوضوح في رفضه ومقاومته لشتى أنواع الاحتلال، ما دفع السلطات الفرنسية – آنذاك – إلى إصدار حكم بالإعدام غيابياً بحق الشاعر، وفي مرحلة ما بعد الاستقلال، كان أبو ريشة مشاركاً بقوة في الحياة السياسية، وكان سفيراً لسوريا في أكثر من بلد، ولكنه على الرغم من وصوله إلى مناصب رفيعة في التمثيل الدبلوماسي، فقد ظل الأقرب دائماً إلى حياة الناس وتطلعاتهم إلى درجة التماهي، إذ كان مناهضاً لمعظم الحكومات المتعاقبة لسوريا، بل كان ناقداً على الدوام لولاة الأمور، بمن فيهم أصدقاؤه المقربون، كالمرحوم سعد الله الجابري، الذي انتقده أبو ريشة بشدة، ثم اعتذر منه بعد وفاته، ولم يكن رجل سلطة، بل إن كبرياء الشاعر واعتداده بنفسه، وإيمانه بأولوية قضايا وطنه، جعله دائم الانحياز إلى السواد الأعظم من الناس.
وكما بدا أبو ريشة أشطر حياته الأولى شاعراً ومثقفاً وطنياً خالصاً، فقد حافظ على هذه النصاعة في أشطر حياته الأخيرة، إذ أبى أن يكون مشاركاً – كشاهد زور – في سلطة آل الأسد
وكما بدا أبو ريشة أشطر حياته الأولى شاعراً ومثقفاً وطنياً خالصاً، فقد حافظ على هذه النصاعة في أشطر حياته الأخيرة، إذ أبى أن يكون مشاركاً – كشاهد زور – في سلطة آل الأسد، بل عاش طيلة هذه الفترة (1974 – حتى وفاته 1990) ما بين بيروت والسعودية.
عمر أبو ريشة لم يكن خاذلاً لبلده وأهله السوريين في أشدّ حالاته مرضاً وشيخوخة، إذ كتب قصيدة، لعلها من أواخر نتاجه الشعري – يدين فيها بشدة ما ارتكبه حافظ الأسد بمدينة حماة من قتل ودمار، ولعلّ مدلول هذه القصيدة التي تختزل الموقف الإبداعي والإنساني لأبي ريشة، يحفّز أجيال الثورة السورية الساعية إلى التغيير والحرية ومقاومة الاستبداد والحداثة، إلى إعادة النظر والمقارنة، بين مشروعات الحداثة التي لم تغادر جذرها الإنساني والوطني، وبين المشروعات الآدونيسية الخاذلة.