تبشرنا صحيفة (يني شفق) التركية فيما نشرته في نسختها العربية الإلكترونية بتاريخ 23 \ 8 \ 2022 بمعلومة مفادها أن أولئك السوريين الذين ستتم إعادتهم (طوعا) من تركيا ضمن برنامجها لإعادة مليون لاجئ سوري إلى مناطق الشمال قبل انتخابات 2023 والذي سيتم توطينهم في المستوطنات العمرانية التي تعمل العديد من المؤسسات والمنظمات الحكومية وغير الحكومية على بنائها في بعض مناطق شمال غربي سوريا، أن المنزل الذي سيقيم فيه شاغله لمدة عشر سنوات سيكون ملكا له بعد انقضاء تلك المدة وهو خبر أو معلومة لا يجوز أن تعبر أمامنا من دون إعادة معالجتها ضمن التلافيف الدماغية لفهم أبعادها ومراميها ودلالاتها والآثار المترتبة عنها.
فهذا القول الذي ربما تفترضه الصحيفة حالة تحفيز للسوريين في تركيا للانخراط بإرادتهم (الحرة) ضمن برنامج (العودة الطوعية) يرسل في طياته رسائل غاية في الخطورة ليس على مستقبل السوريين العائدين أو المعادين قسرا بل على مستقبل الكيان السوري وتركيبته المجتمعية والديموغرافية، فضلا عما يتضمنه من إشارات لجهة السياق الزمني الممكن للحل السياسي النهائي للصراع في سوريا وطبيعة هذا الحل الذي ربما تكون من مقتضياته إبقاء هؤلاء اللاجئين في مناطق وجودهم وتحويلهم إلى مستوطنين دائمين فيها.
بدلا من إسقاط الطاغية وتغييره قرر المجتمع الدولي إسقاط ثورة السوريين وتغيير الشعب بكليته
عشر سنوات أمضاها نصف السوريين ضمن مساحات النزوح المتاحة أو دول اللجوء المباحة وها هو اليوم يطلب منهم أن يمضوا عشرا أخرى في عذاباتهم ليتم تحويلهم إلى مستوطنين في أماكن ألجئوا إليها قسرا وما كانوا لها راغبين، لكن التعاجز الدولي عن نصرتهم في مطالبهم المحقة بالحرية ورفض الاستئثار بالسلطة والثروات والموارد أجبرهم على ترك مواطنهم ومدنهم على إيقاع الموت الضاجّ بصوت انفجار البراميل أو الموت الصامت تحت فحيح القذائف الكيماوية.. وبدلا من إسقاط الطاغية وتغييره قرر المجتمع الدولي إسقاط ثورة السوريين وتغيير الشعب بكليته ليستتب الأمر لحاكم ما تزال القوى الدولية ترى في بقائه واستمراره مصلحة عليا يجب عدم التفريط بها.
تثير خبرية (يني شفق) تساؤلا بديهيا عما إذا كان المشوار المتعثر للحل السياسي المفترض يحتاج لسنين عشر حتى ينضج لما تبقى من السوريين حلٌّ يتيح لهم إمكانية العودة الآمنة لقراهم وبلداتهم ومساكنهم، وعن قيمة وجدوى هذا الحل الذي يحتاج إلى عقد من التفاوض – بعد عقد من القتل والتدمير - ليرى نوره من تبقى حياً من السوريين؟!!.. ويثير الخبر أيضا إشارات استفهام عن ما يمكن أن ترسخه تلك السنوات من حقائق ديموغرافية جديدة مغايرة لواقع الحال في مناطق شمال غربي سوريا توفرت لها كل سبل الدعم والرعاية لتجذيرها وعن أثر ذلك على طبيعة ذاك الحل السياسي المأمول الذي لن يلحظ بعد عقد آخر ما كانت عليه الأمور في تلك المناطق وتاليا ما كانت عليه في مختلف مناطق سوريا ما يرسّخ حقائق ديموغرافية وسكانية ومجتمعية جديدة في عموم الجغرافيا السورية وما يستتبع ذلك من صيغ سياسية ودستورية ستفرض نفسها على شكل الحل وشكل الدولة بالضرورة..!
ثم وعلى المستوى القانوني الوطني فإن تلك "المستوطنات العمرانية" تتم إشادتها على أراض سورية يفترض أنها مملوكة للدولة السورية فهل يملك من أشادها الحق القانوني بمنح صكوك تملك لعقارات أنشأها على أراض ليست ملكا لمنشئها، بل ملكٌ للدولة السورية؟! وما هي الصفة القانونية التي يفترضها أولئك في أنفسهم ليمنحوا صكوك ملكية عقارات لسوريين أشيدت على أراض سورية؟!
الحكومة التركية تعمل على استثمار الرفض المجتمعي لبقاء اللاجئين السوريين بتصعيد حملات الترحيل إلى مناطق الشمال السوري واتخاذ سلسلة من القرارات التضييقية عليهم
تفترض قضية عودة اللاجئين السوريين توفر بيئة آمنة يتمكن فيها العائدون من العيش الآمن على مختلف المستويات الحياتية والقانونية والمعيشية، كما تفترض أن تكون تلك العودة مبنية على قرار حر وإرادة حرة من دون إكراه أو تضييق، وتفترض أخيرا عودة كل شخص إلى مكان سكناه وبلدته أو مدينته التي غادرها، والأهم أن لا تكون منظومة السلطة التي هجّرت شعبها قسرا وألجأت نصفه خارج وطنه هي نفسها السلطة التي سيعود اللاجئون للعيش في كنفها (!) لكن كل المقاربات المطروحة لعودة اللاجئين حتى الآن لا تلحظ ولا تراعي هذه الاشتراطات.. هي برامج يتعجل أصحابها في إنجازها بغية الخلاص من عبء اللاجئين لا أكثر دون اكتراث لمصائرهم.
وكما صار واضحا للعيان فإن الحكومة التركية تعمل على استثمار الرفض المجتمعي لبقاء اللاجئين السوريين بتصعيد حملات الترحيل إلى مناطق الشمال السوري واتخاذ سلسلة من القرارات التضييقية عليهم وإطلاقها تاليا لبرنامج (العودة الطوعية) وبالتالي فهي تعمل على إنهاء برنامج الحماية المؤقتة الذي منحته للسوريين على أراضيها ليس وفقا لمعايير وشروط تم تحديدها مسبقا في متن قانون الحماية نفسه أو وفقا للمعايير والموجبات القانونية المقررة بمواثيق حقوق الإنسان واللاجئين بطبيعة الحال، بل وفق رؤى سياسية صارت ترى في إعادة التواصل مع سلطات دمشق خيارا واجبا أو ممكنا لإعادة صياغة سياسة جديدة ومختلفة كليا عن ما اتبعته خلال العقد الماضي على مختلف المستويات السياسية والعسكرية والأمنية مع منعكسات ذلك على ملف اللاجئين.
لكن تبقى المعضلة الأكبر ليست في قرار تركيا أو لبنان وحدهما بإعادة اللاجئين - وهو قرار كارثي وغير قانوني بكل المعايير - وإنما في ذلك السياق الدولي الذي بدأت ملامحه تتوضح أكثر والذي يبدو أنه لا يمانع – أو غير عابئ - من أن يكون ملف اللاجئين مدخلا من جملة مداخل لقرار الإبقاء على منظومة الحكم الأسدية والعمل معها وإعادة تعويمها وإدماجها في محيطها الإقليمي والفضاء الدولي مجددا بعد إجراء مداخلات جراحية تجميلية عليها - مع ما يستتبع ذلك من تقويض لنظام العقوبات واختراقه بمشاريع التعافي المبكر وتاليا إعادة الإعمار - خصوصا أن ملف الحل السياسي الشامل ومساراته ما تزال معطلة وطريقها غير سالكة إلى أمد طويل.