دخلت صبيتان لبنانيتان إلى القنصلية اللبنانية في باريس واتجهت إحداهما على الفور نحو الصورة الرسمية للرئيس ميشال عون. انتزعتها عن الجدار وهشمتها على الأرض، وسط صراخ هستيري لموظفتين بدا رد فعلهما أنهما من أنصار عون أكثر من كونهما متهيبتين لفعل "الاعتداء" على صورة رئيس الجمهورية.
وعدا عن جمال الفعل الثوري الشبابي الذي قام به الصبيتان، ورمزية انتزاع صورة عن الجدار ورميها أرضاً، كتعبير عن توق شطر راجح من اللبنانيين لإسقاط المنظومة الحاكمة كلها.. فالمهم بالحدث الذي تناقلت وسائط التواصل الاجتماعي شريطه الفيديوي، هو رد فعل الموظفتين الذي يشبه الصدمة الجنونية واللامعقول. لم تستوعب الموظفتان مشهد صورة عون مهشمة. لم يقبل عقلهما هكذا مشهد. لم تتقبلا أن ثمة من لا يبجل ميشال عون.
منذ نيسان 2003، حين بدأت الأحذية تنهال على تماثيل صدام حسين المتهاوية، بدأت الشعوب العربية تكسر "تابو" إهانة الحكام أو شتمهم أو تمزيق صورهم أو إسقاط أنصابهم وتماثيلهم. ومنذ العام 2011، كانت الثورات العربية كلها إنما تختزل بهذا التوق الحارق لإسقاط "أنصاف الآلهة" الديكتاتوريين والطغاة والمتسلطين. مشهد الأحذية المتطايرة من أيدي الناس على الشاشة التي تبث خطاب هذا الرئيس أو ذاك، كانت من الممارسات الأساسية للتعبير الثوري عن الاحتقار والرفض والرغبة الجارفة للتخلص من هؤلاء الذي تحكموا بالبلاد والعباد لعقود.
وعلى الرغم من أن الرئاسة اللبنانية ليست ديكتاتورية ولا تملك صلاحيات تخولها التسلط أو احتكار السلطة ولا تتسم بأي طابع استبدادي، إلا أن انعطاب النظام السياسي، وتعطيل الحياة الديموقراطية، وانتهاك الدستور والاستقواء الطائفي والفئوي وهيمنة الفساد على الحياة العامة، جعل المنظومة الحاكمة فاقدة للشرعية الأخلاقية والشعبية والسياسية، وتحولت إلى عبء ثقيل متسلط على لبنان واللبنانيين. ولذا، تحولت كل رموز الحكم إلى هدف للانتفاضة الشعبية وللغضب العمومي.
تقليدياً، رئيس الجمهورية الماروني يُعتبر لدى الجمهور المسيحي بمثابة مقام يُمثل مكانتهم ويضمن حضورهم وفعاليتهم ووجودهم في الدولة. "الرئاسة" لدى المسيحيين صنو كرامتهم وصمام أمان التوازن إزاء الشركاء المسلمين. هو الرئيس العربي الوحيد غير المسلم. لذا، يشكل في ضمير المسيحيين مصدر الأمان والاعتزاز. وغالباً ما يتجنب المسلمون أي مس به، تحاشياً لأي حساسية طائفية.
لذا، في العام 2005 كان رئيس الجمهورية إميل لحود هو الرئيس الأقل شعبية بتاريخ لبنان لدى الجمهور المسيحي. كان رئيساً "معيَّنا" من قبل حافظ الأسد، وتم التمديد له برغبة بشار الأسد. ومع ذلك، فـ"انتفاضة الاستقلال" لم تستطع المس به أو إسقاطه، لا لشيء إلا لأن المسيحيين والبطريركية المارونية رفضوا تكريس عرف أو سابقة إسقاط رئيس في الشارع. كان من المهم جداً هو مقام الرئاسة لا الجالس على كرسيها. غياب أي ود بين البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير وإميل لحود، لم يمنع صفير عن الدفاع عن الرئاسة ورفض إسقاط لحود.
بمعنى ما رئاسة الجمهورية "تابو" في لبنان.. وللسبب نفسه، عمد الشيعة إلى تحويل رئاسة مجلس النواب إلى "تابو" أيضاً، فيما السنّة يشعرون بالمهانة والضعف منذ اغتيال رئيس مجلس الوزراء رفيق الحريري وبالتالي استضعاف كل رئيس حكومة سنّي أتى من بعده.
لكن كل هذا لا يفسر تماماً هستيرية موظفتي القنصلية حين شهدتا انتزاع صورة عون ورميها أرضاً. رد فعلهما أشبه برؤية انتهاك ديني، أو اعتداء كافر على أيقونة مقدسة، أو كمن يرتكب فعلاً فاحشاً داخل كنيسة أو مسجد. صدمة تامة. فعون بنظر أنصاره محاط بهالة قداسة وتعظيم. التعلق والتوله به بلا حدود ويفوق التحزب أو التأييد إلى ما يشبه التعصب الديني.
ومحنة العونيين، أن تاريخ عون ووقائع سيرته السياسية كما سيرته الرئاسية وفترة حكمه، تكاد تكون عبارة عن كوارث وأكداس من الفشل والأداء الرديء، ويكاد لا يُسجل له أي إنجاز يمكن ذكره. بل إن عهده هو الأسوأ منذ مئة سنة، تاريخ تأسيس لبنان، الذي لم يعرف حالاً من الانهيار كما يشهدها مع هذا الرئيس العنيد.
آمن العونيون عام 1988، أن الرجل هو المخلص من الميليشيات والاحتلالات. هو الذي سيعيد المجد للبلد والسلم والازدهار. هو الذي سينتشل المسيحيين من مأساة الحرب وينهض بكل اللبنانيين في جمهورية حرة سيدة مستقلة ديموقراطية. هو ابن المؤسسة العزيزة على قلوب المسيحيين، الجيش اللبناني. كان قائداً للجيش فالتف حوله ما سيصبح اسمهم "العونيين". وعوده كانت كافية ليؤمنوا به، ذاك الإيمان الأعمى الديني الطابع. في ذاك العام أراد أن يصير رئيس جمهورية. لم يستطع فشن حرباً عبثية مدمرة وميؤوساً منها سلفاً ضد الجيش السوري. ورغم هزيمته، استدار وشن حرباً على "القوات اللبنانية"، ليدمر المجتمع المسيحي كما لم يستطع "الأعداء". خرج إلى المنفى، ولم يعد إلا ليصير حليفاً لأعدائه وعدواً لحلفائه. سيرة التعطيل والتخريب مستقوياً بحزب الله امتدت سنوات حتى وصل عام 2016 للرئاسة. ومنذ وصوله حتى اليوم، أنجز ميشال عون أعظم أمر: تدمير الدولة اللبنانية، وتسليم مصير البلد لحزب الله.
فعل كل ما لا يتمناه العونيون (في العقل والمنطق)، ومع ذلك ظلوا على هوسهم بذاك المخلص (عكس كل منطق وعقل). وكلما فشل أو انهزم أو أخطأ أو ارتكب ازدادوا تمسكاً به. وهذا لا يمكن فهمه لا في عالم السياسة ولا في مبادئ "الرأي العام".
العونيون هم "تروما" عميقة. ويشبهون إلى حد بعيد الجمهور المتعصب لبشار الأسد. فالعلويون يدركون مثلاً ما اقترفه الأسد ومدى تسببه بالأهوال لهم قبل "أعدائهم". يدركون أنه تسبب بخسارتهم لسوريا. ومع ذلك، فالتعصب المرضي والخوف العميق الهستيري يجعلهم يرفضون أي عقلانية سياسية.
ظاهرة عون وأنصاره هي عوارض موت الجمهورية.