على الرغم من تشابه الأيام بسيرورتها المعتادة في سجن تدمر، إذ إن استمرار الشقاء وتقادمه سيجعل منه حالة تميل إلى النمطية بالنسبة إلى المعتقلين، إلّا أن هذه النمطية، على سوئها وبشاعتها، لم تكن ثابتة، بل غالباً ما تعمد إدارة السجن إلى كسرها، أو إحداث تغيير فيها، ولكنه بكل تأكيد، لن يكون تغييراً نحو الأفضل، بل نحو مزيد من الممارسات التي تعزّز السلوك الوحشي للسجان، كما تعزّز في الوقت ذاته، حالة البؤس لدى المسجونين.
من أبرز علائم التغيير من التوحش نحو الأكثر توحّشاً، يتجلّى في ما كان يحصل كل عام بحلول شهر رمضان، إذ تبادر إدارة السجن إلى استحضار جملة من التدابير والتوصيات، توعز بها إلى السجانين من أجل تنفيذها بصرامة، من ذلك مثلاً، مراقبة أوقات تناول الطعام خلال النهار، ثم تبلغ هذه المراقبة ذروتها عند أذان المغرب، موعد الإفطار، وكذلك بعد منتصف الليل، موعد السحور، وسوف تحلّ اللعنة بأشنع تجلياتها على من يُضبَطُ من السجناء وهو يتناول طعاماً أو يشرب الماء في الوقتين المذكورين، إذ إن ذلك يعني أنه صائم، الأمر الذي تفسّره إدارة السجن على أنه تحدٍّ لتعليمات الإدارة، ومخالفة للتوصيات، وهو بالتالي تمرّد خطير من السجين، يوجب العقاب الشديد الذي لا أحد يستطيع التنبؤ بحدوده.
وعلى الرغم من تلك التدابير المفروضة بأقسى أنواع العنف، يصرّ المعتقلون في سجن تدمر، وغالبيتهم الساحقة من الإسلاميين، على اتخاذ (تدابير مضادة)، إذ إنهم يصرّون على تأدية الفرائض الدينية
وعلى الرغم من تلك التدابير المفروضة بأقسى أنواع العنف، يصرّ المعتقلون في سجن تدمر، وغالبيتهم الساحقة من الإسلاميين، على اتخاذ (تدابير مضادة)، إذ إنهم يصرّون على تأدية الفرائض الدينية، ولديهم رصيد كبير من المعرفة الفقهية التي تتيح للإنسان المؤمن الكثير من أساليب وأشكال تأدية الفرائض في الحالات الاستثنائية، كحالات الحرب مثلاً، ذلك أن حالة الاعتقال، هي أقرب ما تكون إلى حالة مواجهة بين الكفر والإيمان، وفقا لما يراه الإسلاميون، لذلك عادةً ما يعمد السجناء، بحلول شهر رمضان، إلى تغيير مواعيد طعامهم، لكن دون أن يشعر السجانون والشرطة، فمن ذلك مثلاً، يقوم مسؤول الطعام في المهجع بتقسيم وجبة الفطور في الموعد المحدد صباحاً، كما يحاول الإبطاء في توزيعها، لإيهام السجان الذي يراقب المساجين من الشرّاقة (وهي فتحة في منتصف السقف) بأن الجميع يستعد لتناول الطعام، لكن في واقع الحال، كان كل فرد أو مجموعة داخل المهجع، تحاول إخفاء الطعام، كما تحاول جمع حصصها من جميع الوجبات، لتتناولها مساء دفعة واحدة، ليس عند حلول أذان المغرب طبعاً، لأن الشرطة تكون قد استنفرت، بل هي تتحيّن الفرصة لرؤية أي سجين يتناول الطعام مع الأذان، عندها سيكون السجين قد ضُبطَ بالجرم المشهود، لذلك ينتظر السجناء لمدة نصف ساعة أو اكثر، وليس على مرأى السجان، بل عادة ما يقوم رئيس المهجع ومساعده بتوزيع المساجين إلى مجموعات، بعضها يركن إلى الأماكن التي لا يتمكن السجان من رؤيتها من الشراقة، لتتناول طعامها بسرعة فائقة، بينما المجموعات الأخرى تبقى جالسة في الأماكن المكشوفة، وهكذا تتناوب المجموعات على الأماكن، إلى أن يأكل الجميع خلال أقل من ساعة. بعض المعتقلين يحاول أن يبقي شيئاً من طعامه، ليكون له سحوراً قبل الإمساك، إلّا أن هذه المسألة هي في غاية الخطورة، إذ إن الجميع سيكونون نياماً، ومسألة استيقاظ أحد من المساجين ليلاً هي من الأمور الأشد خطورة مهما كان السبب، ومن يصرّ على السحور فيكون قد قبل أن يجازف مجازفة كبرى.
في رمضان عام 1997، أقدم أحد السجناء على تناول سحوره وهو في وضعية النوم، تحت البطانية، ظناً منه بأن أحداً لن يشعر به، إلّا أن سوء المصادفة جعل الشرطي الذي كان يراقب السجناء النيام من الشراقة، يرى السجين النائم يتحرك بين الحين والحين، خلافاً لما نصّت عليه التعليمات والتوصيات، فما كان من الشرطي إلّا أن أمر الحارس الليلي برفع البطانية من فوق السجين النائم، وحينها بدا السجين متكوراً على نفسه وبين يديه رغيف من الخبز، مع بعض حبيبات البرغل ( سندويشة برغل)، فما كان من الشرطي إلّا أن هرع مسرعاً، فالأمر على غاية من الخطورة، ولا يحتمل التأخير أو الانتظار للصباح، وبعد دقائق حضر مساعد السرية المدعو (محمد نعمة) ومعه جوقة من الشرطة، للتحقيق في الأمر، وبعد مداولات فيما بينهم، لم نكن نسمع معظم كلامهم، انصرفوا بهدوء، دون أن يتحدثوا مع أحد من المهجع.
فما كان من الشرطي إلّا أن أمر الحارس الليلي برفع البطانية من فوق السجين النائم، وحينها بدا السجين متكوراً على نفسه وبين يديه رغيف من الخبز، مع بعض حبيبات البرغل ( سندويشة برغل)
وفي صبيحة اليوم التالي، حوالي التاسعة صباحاً، وهو موعد فتح الأبواب لتوزيع وجبة الفطور، نودي على السجين، كما كان متوقعاً، وقد حُشِرَ على الفور في الدولاب، وبدأت عناصر الشرطة العسكرية بالتعاور على جلده، بعض السجناء داخل المهجع، ممن كانوا يحصون عدد الجلدات، ذكروا أنه تلقى على قدميه ما يقارب الخمسمئة جلدة، وحين أمره المساعد بالنهوض والوقوف على قدميه، بدا بعض الانشراح على من كان داخل المهجع من المساجين، ظناً منهم بأن العقوبة انتهت، ولكن هذا الانشراح لم يدم لأكثر من ثوان فقط، إذ بدأ عناصر الشرطة يمطرونه بالهراوات، ويرفسونه بأرجلهم، حتى أُغمي عليه، تكرّرت هذه العقوبة ليومين على التوالي في الموعد ذاته، وفي اليوم الثالث، كان السجين غائباً عن الوعي تماماً، وكان انتفاخ البقع السوداء يغطي وجهه وسائر نواحي جسده، وكما هي العادة، أمر رئيس دورية الشرطة رئيس المهجع بإخراج السجين، فقام رئيس المهجع، بمساعدة اثنين من السجناء (عناصر السخرة) بحمل السجين المعاقب على بطانية، ووضعوه بين يدي الدورية وعادوا إلى المهجع بحسب التعليمات، ساد الصمت لمدة عشر دقائق، توقعنا حينها – نحن الموجودين داخل المهجع – بأن الشرطة ينتظرون أوامر المساعد أول، ليتصرفوا، لأن حالة السجين لم تعد تحتمل التعذيب أكثر من ذلك، بعد الدقائق العشر، فُتح الباب بسرعة، صاح المساعد بصوت عالٍ: ولاه رئيس المهجع، دخّل هالكلب بسرعة عالمهجع، ثم انصرفوا جميعاً.
لعلّ هذه الحادثة كانت السبب المباشر الذي دفع إدارة السجن لاتخاذ تدابير جديدة، إذ بعد أسبوع، قام أحد الرقباء بتبليغ كلّ مهجع على حدة: ( ولاه حيوانات – ولاد الزنوة ...، كل واحد فيكن وقت التفقد يعبّي الكار تبعو مي (الكار هو كأس بلاستيك) وإزا ما لقى مي يعبيه خرا، ولما تسمعو كلمة (إشرب) الكل لازم يشرب دفعة وحدة، وبعدما تشرب تقلب الكار على تمو، وإزا شفت واحد منكن مخلّي نقطة بدّي ......) وبالفعل، أصبح الجميع ملتزما بالتعليمات الجديدة، التي تقضي بأن يشرب الجميع كأساً من الماء، الساعة الثانية ظهراً، أي حين موعد التفقد، ولكن ما كان هذا الإجراء ليثني السجناء عن متابعة صومهم، باعتبار أنهم أُكرهوا على شرب الماء، وهذا لن يكون مفسداً للصوم شرعاً، وفقاً لما أفتى به معظم الفقهاء من السجناء.
خاتمة الطقوس الرمضانية كانت تبلغ ذروتها صباح يوم العيد، إذ بات من المعتاد أن تكون للدولاب وقفة مطوّلة أمام كل مهجع، كما بات من المعتاد أن تشتعل باحات سجن تدمر في هذا اليوم بصراخ السجناء وتأوهاتهم، وأن تتلوّن قيعانها بدمائهم، وتزامناً مع البرقيات التي كان يرفعها المسؤولون في الدولة وأرباب الشعائر الدينية ورؤساء الدول، مع ساعات الصباح الأولى، إلى حافظ الأسد، مهنئين بحلول عيد الفطر، كانت الكرابيج والهراوات والركلات تنهال على رؤوس السجناء وأجسادهم، مهنئةً – أيضاً – بحلول عيد الفطر.