ليس مستغرباً أن يسافر بشار الأسد خارج سوريا وضحايا الزلزال المدمر الذي ضرب مناطق سيطرته لا يزالون تحت الأنقاض، ليس مستغرباً من رئيس نذر نفسه وخصّص اثني عشر عاماً من حياته لقتل السوريين وحرق مدنهم وقراهم، أن يتركهم في أثناء محنتهم وينتهز فرصة انشغال العالم بالكارثة ليزور أي دولة تقبل استضافته.
ما الذي يترتب فعله على رئيس كهذا إثر الكارثة، سوى زيارة استعراضية "مرحة" إلى المناطق المنكوبة، وتوزيع الابتسامات والضحكات على الأتباع، ثم العودة إلى قصره ليلقي من مكتبه كلمة متلفزة يمارس من خلالها هوايته في الأستذة ثم يقفل ملف الكارثة استعداداً للسفر؟!
ليس ذلك مستغرباً بالتأكيد من رئيسٍ لا تربطه بشعبه أية صلة، ولا ينتمي إليه ولا تهمه أوجاع المواطنين ولا يهزه موتهم، ولا كوارثهم ولا مآسيهم، ولا ينظر إليهم إلا على أنهم قرابين لكرسيّه، قرابين جاهزة، يضحي بمن يشاء في الوقت الذي يشاء.
أن يختار الرئيس وقت السفر خارج البلد في الوقت الذي يجب عليه أن يقطع زيارته ويعود إلى بلده إن تصادف أنه كان مسافراً في أثناء الكارثة، أمر لا يفعله إلا بشار الأسد، وليس علينا أن نستغربه.
غير أن المستغرب، أن يكلّف الأسد نفسه عناء السفر إلى عُمان لتلقّي العزاء من سلطانها، بدلاً من أن يأتي سلطان عمان إلى دمشق لتقديم واجب العزاء.. والأغرب أن يُعتمد تلقي العزاء كسبب أساسي لتلك الزيارة، وهو الأمر الذي أكده موقع "رئاسة الجمهورية العربية السورية" الناطقة باسم الرئيس وعن الرئيس ومن أجل الرئيس، والذي نشر الخبر وجعل من عزاء سلطان عمان للأسد الإنجاز الأكبر للزيارة.
زيارة رسمية لبلد آخر في وقت تعاني منه البلاد من كوارث لا تحصى، ليس آخرها بالطبع الزلزال المدمر الذي انشغل العالم كله به ما عدا الأسد..
أما ما فعله الرئيس خلال تلك الزيارة -عدا شكره للسلطان على قبوله استقباله وحفاوة ذلك الاستقبال وتقديمه واجب العزاء في عُمان - فهو ليس أكثر من التصريح بأن سوريا وعُمان تربطهما علاقات ثقة متبادلة وتفاهم عميق.
تجهيزات كبيرة وترتيبات أمنية واسعة النطاق وعمل استخباريّ طويل للحفاظ على سرية موعد تلك الزيارة، وإنفاق ضخم.. كل ذلك من أجل أن يسافر الأسد إلى عمان ويؤكد من هناك على علاقات الثقة والتفاهم، والتباحث في العلاقات الثنائية.
زيارة رسمية لبلد آخر في وقت تعاني فيه البلاد من كوارث لا تحصى، ليس آخرها بالطبع الزلزال المدمر الذي انشغل العالم كله به ما عدا الأسد.. لو وقفنا فقط عند الكُلَف المادية لتلك الزيارة، لعرفنا مدى استهتار الأسد بالكارثة وانفصاله عن واقع السوريين ونكبتهم، فميزانية التدابير الأمنية الضخمة والمفتوحة، والتعويضات التي تصرَف للوفد المرافق لسيادته، تكفي وحدَها لمساعدة مئات الأسر المنكوبة والمساهمة في إنقاذ كثيرين من تحت الأنقاض، أو على الأقل استخراج جثث الضحايا.
وفي هذا الوقت بالذات، في وقت محنة السوريين واحتياجهم لأي قرش قد يسهم في مداواة مصاب، أو إيواء مشرد، ينفق الرئيس مبالغ ضخمة ليسافر هو ووفده المرافق خارج القطر ويخصص زيارته بكل تكاليفها للتأكيد على علاقات الثقة والتفاهم القائمة مع سلطنة عمان.
ألم يكن الأجدى توفير كُلَف تلك الزيارة وتخصيصها لجهود الإنقاذ، لا سيما في الوقت الذي تتسارع فيه الدول والشعوب لجمع التبرعات لإيصالها إلى المنكوبين من السوريين، على الأقل حفاظاً على ماء الوجه أمام الدول والشعوب التي تقوم بلمّ تلك التبرعات من المؤسسات ومن الأشخاص أيضاً الذين يقتطع كثيرٌ منهم مِن دخلهم المحدود لمساعدة شعب دولة منكوبة ثم يفاجَؤون بأن رئيس تلك الدولة هو الأكثر لا مبالاة بتلك الكارثة، والأكثر تبذيراً للأموال التي يجب أن تخصَّص للمنكوبين؟
ربما لم يكن الكثيرون يصدقون أن الأسد يسرق المساعدات والتبرعات القادمة من الخارج، ولكن سفره المجاني والخالي من أي هدف لصالح سوريا، جاء دليلاً قاطعاً على ذلك، فمن يتخلى عن شعبه في تلك المحنة ويسافر في زيارة رسمية لا تعدو أهدافها عن شكر سلطان الدولة المضيفة والتأكيد على العلاقات المتينة بين البلدين، لا يمكن أن يتردد في سرقة المساعدات والتبرعات.
من جانب متصل، تدلّ زيارة الأسد لعمان على هوس الأسد وانشغاله بذاته وبمشروعه الوحيد وهو إعادة تعويم ذاته، وكل الكوارث لا يمكن أن تعطله عن المضيّ في ذلك المشروع أو إعادة النظر في برنامج عمله، وهو ما يثبت مرة أخرى مدى المسافة التي تفصل الأسد عن سوريا والسوريين وتركيزه على مشروعه الذاتي والوحيد والمتجسد في بحثه عن كل الوسائل للبقاء في السلطة.
لقد راهن الأسد منذ فترة طويلة على أن عداء الغرب للإسلاميين سيكون وسيلة ناجعة لجرّ تلك الدول الغربية إلى صفه، إن لم يساعدوه بشكل مباشر، فهم لن يساعدوا خصمه بالحد الأدنى، والصورة التي يحاول الأسد ترويجها عن انفتاحه وتحرره وعصريته وعلمانيته، في مقابل صورة بديله الإسلامي المتطرف الإرهابي، ستكون كفيلة بلجم موقف الغرب الذي يفضل الديكتاتور على البديل الإسلامي بكل الأحوال، تلك اللعبة نجحت بشكل كبير خاصة بعدما خصص الأسد مليارات الدولارات لترويج تلك الرواية وتثبيتها وتعميمها على كل معارضيه بمن فيهم اليساريون والعلمانيون، غير أن الأسد لم ينتبه على ما يبدو إلى المتغيرات الجذرية التي جاءت على خلفية الحرب الروسية على أوكرانيا.
لقد أصبح فلاديمير بوتين العدو الأكثر خطراً على الغرب اليوم، أكثر خطراً من التيارات الجهادية والإسلامية ذاتها، ولهذا فإن أي حليف لبوتين بات في دائرة العداء للغرب، وبالتالي فإن المناورات التي كان الأسد يقوم بها لم تعد مقبولة غربياً، فلا فرق بين اللحية وربطة العنق حينما يتعلق الأمر بتهديدات تنال من الأمن القومي، لقد بات الغرب واعياً بأن البدلة الرسمية التي يرتديها الأسد، لا تختلف عن "جلابية" البغدادي، وأن الصورة الحضارية التي يحاول الأسد إيصالها للعالم لم تعد منفصلة عن صورة معلمه بوتين.
لقد عاد الغرب بعد تهديدات بوتين إلى الحقائق الأصلية التي سكت عنها لفترة وخبّأها في درج المصالح لإخراج الملفات الحقيقية إلى العلن، وبالتالي أصبحت مسألة القبول بإعادة تدوير الأسد غير واردة، رغم أنها كانت قاب قوسين أو أدنى من التحقق، ولهذا بدأ الإعلام الغربي يعيد الخطاب الذي تبناه منذ أكثر من اثني عشر عاماً ضد الأسد، وعاد إلى اللغة ذاتها التي تدينه كمجرم حرب، وراح يعيد نشر الحقائق التي أخفى جزءاً كبيراً منها لسنوات في أدراج السياسة.
كانت المذيعة في الاستديو تكيل الشتائم للغرب وتتحدث عن قسوته وتوحشه وظلمه، وفي المطار كان مراسل قناة النظام يحتفل بوصول الطائرة النرويجية
ورغم فك الحصار عن المساعدات الإنسانية على خلفية كارثة الزلزال، ولفترة محدودة، فإن موقف الغرب من الأسد بات أكثر تشدداً، هذا ما برز بوضوح في أثناء وصول طائرة المساعدات النرويجية أمس الأول إلى مطار دمشق، واحتفاء إعلام النظام بالحدث وقطع بث البرنامج الذي كان يتحدث عن العقوبات والحصار ومنع المساعدات الإنسانية عن السوريين المنكوبين نتيجة الزلزال، للانتقال إلى مطار دمشق لنقل وقائع وصول الطائرة، امتنع مندوب النرويج عن الإجابة عن أي أسئلة صحفية في رسالة شديدة الوضوح تلخص الموقف الأوروبي الذي وقفَ نفسَه لمساعدة الضحايا، حتى وإن كان عبر مناطق النظام، ولكنه أوصل رسالة واضحة ملخصها رفض الغرب التعامل مع النظام.. كانت المذيعة في الاستديو تكيل الشتائم للغرب وتتحدث عن قسوته وتوحشه وظلمه، وفي المطار كان مراسل قناة النظام يحتفل بوصول الطائرة النرويجية، وكأنه يروج لنصر مبين لنظامه.
صورة كاريكاتورية جديدة تتطابق مع صورة الأسد في زيارته لعمان بينما بلده لا تزال تعيش تداعيات الكارثة، ولربما سيكون هذا الحدث مطلعاً لإحدى الروايات التي سيدونها التاريخ لا محالة: بينما كان العالم مشغولاً بالأوضاع الكارثية التي خلفها الزلزال في سوريا، كان رأس النظام منشغلاً بالسفر إلى عُمان، في زيارة لا يمكن أن يكون لها هدف حقيقي سوى أنها مجرد رغبة الرئيس في "شمة هوا"، على حساب آلاف الضحايا المخنوقين تحت الأنقاض.