الانكفاء التام لنظام الأسد عما يجري، سواء في غزة أو لبنان أو حتى على التخوم السورية الإسرائيلية، أمرٌ بات من الميسور فهمه وتفسيره، ولم يعد يحتاج كثيرا من الجدل والنقاش، طالما أن رأس النظام بات يجاهر بالتزامه التام بما هو مرسوم له.
كما أنه استطاع أن يحظى بتفهم حلفائه وداعميه حيال هذا الانكفاء، ونعني الجانب الإيراني وذراعه اللبناني (حزب الله). إذ إن الطرفين معاً أجازا استثناءً لانزياح الأسد عن (وحدة الساحات)، إقراراً منهما بأن الحيّز الذي حُشر فيه الأسد في الظرف الراهن لا يوجب عليه العطالة الميدانية فحسب، بل يوجب عليه الركون المطلق إلى الصمت وعدم إبداء أية ردّة فعل، خشيةَ أن يتوهم الإسرائيليون بأن نظام دمشق على وشك الخروج عن قواعده وحدوده التي رُسمت له سابقاً.
وربما بسبب ذلك لم يظهر لنظام دمشق أي موقف حتى حيال العمليات الأكثر إثارة في استهداف قوات حزب الله (عملية تفجير أجهزة "الميجر" أو مقتل القيادي إبراهيم عقيل، وقبله مقتل العديد من الشخصيات القيادية في حزب الله). ولعل من الواضح أن الصمت الأسدي لم يكن خياراً تمليه مصلحة سلطة دمشق فحسب، بل كان مطلباً روسياً، يُضمر خشية بوتين من تحوّل الجغرافيا السورية إلى ساحة حرب، ما يؤدي – إن حصل ذلك – إلى اختلاط الأوراق، التي من الممكن أن تطيح بالمصالح الروسية في سوريا.
إن سوء حظ طهران قد اقترن بأزمة عاصفة تجتاح حكومة الكيان الصهيوني، الأمر الذي دفع بنتنياهو إلى اختراق تلك القواعد.
إيران وصبرها الاستراتيجي المزعوم
ما لا يمكن الركون إليه أو تصديقه هو أن يكون انكفاء طهران عن أي شكل من أشكال المواجهة حيال ما يجري في غزة أو لبنان أو حتى في عمق الأراضي الإيرانية جزءًا من استراتيجية المواجهة وليس تحاشياً لها. وخاصة عندما تتجاوز المناكفات الإيرانية الإسرائيلية حالة التهاوش عن بُعد والاكتفاء بالتراشق الموظّف لحفظ ماء الوجه لا أكثر. ذلك أن مجمل قواعد الاشتباك السابقة بين الطرفين قد رُسمت وحدّدت بناءً على مصالح راهنة لدى الطرفين، إلّا أن تلك المصالح لا تثبت على حال.
يمكن القول إن سوء حظ طهران قد اقترن بأزمة عاصفة تجتاح حكومة الكيان الصهيوني، الأمر الذي دفع بنتنياهو إلى اختراق تلك القواعد، لقناعته بأن مصالح تل أبيب ينبغي أن تكون هي الموجه لسياسات الدول في المنطقة وليس العكس.
بناءً عليه، فإن تعاظم الحرج الإيراني، بل فداحة الإهانة التي حلّت بحكام طهران، تحوّلت إلى ضربٍ من الحكمة المزعومة التي نسمعها تتواتر باستمرار على لسان قادة إيرانيين، تؤكّد ألّا علاقة لإيران بما يجري في غزة. كما تؤكد حرص إيران على تحاشي حرب شاملة مع إسرائيل، مع حرصٍ مضمر على أن يكون هذا الموقف محلّ تقدير واشنطن، التي أبدت حرصاً شديداً منذ بداية "طوفان الأقصى" على تحييد إيران مقابل الاستمرار في التفاوض، ليس حول الملف النووي الإيراني فحسب، بل حول رسم معالم تفاهمات أميركية إيرانية جديدة تأخذ بعين الاعتبار المصالح الإيرانية في الشرق الأوسط.
منطق العداء الأميركي المطلق لإيران لم يعد يكتسي صفة الثبات والديمومة، بل يمكن أن تتحول استراتيجية العداء التقليدية إلى استراتيجية "احتواء" لا تفضي إلى الصدام بقدر ما تهدف إلى تأطير العلاقة بين الطرفين.
أطماع إيران لدى جيرانها العرب
ما لا يحتاج إلى مزيد من البيان هو أن أميركا لا تستهدف نظام الحكم في طهران، كما لا مطامع لها داخل حدود الدولة الإيرانية. وبالمقابل، لم يكن في وارد السياسات الإيرانية استهداف أمن أميركا داخل حدودها الجغرافية. ولكن الصراع بين الجانبين كان سجالاً يعلو تارة ويخفت تارة أخرى طوال عقود مضت، وعلى أرض عربية.
ما تسعى إليه إيران هو توطيد نفوذها وتوسّعها في الهيمنة على دول الجوار والمنطقة العربية عموماً. في حين تجد أميركا نفسها – كدولة عظمى – معنية بالحفاظ على الأمن والسلام العالميين، وبالتالي هي معنية بردع إيران التي يمكن أن يطول خطر نفوذها المصالح الأميركية في المنطقة أيضاً. إلّا أن هذا المنحى من المواجهة التقليدية بين الطرفين يتعرض اليوم إلى انعطافة جديدة، ربما تمليها السياسات الجديدة للولايات المتحدة الأميركية. إذ تتعزز القناعة لدى الإدارات المتعاقبة على البيت الأبيض بأن الحرب المباشرة والوجود العسكري الأميركي خارج الحدود القومية لم يعد النهج المقبول لدى الرأي العام الأميركي على الأقل. بل ربما باتت القناعة الأكثر رسوخاً لدى واشنطن أن ما تحققه الحروب العسكرية يمكن تحقيقه عبر استراتيجيات أخرى ليست الحرب إحداها.
وبالتالي، فإن منطق العداء الأميركي المطلق لإيران لم يعد يكتسي صفة الثبات والديمومة، بل يمكن أن تتحول استراتيجية العداء التقليدية إلى استراتيجية "احتواء" لا تفضي إلى الصدام بقدر ما تهدف إلى تأطير العلاقة بين الطرفين وفقاً لتفاهمات جديدة. وهذا ما بدا واضحاً منذ عام 2015، حين بدأت إدارة أوباما مفاوضات مباشرة مع طهران حول ملفها النووي. علماً أن أي تفاهمات جديدة سوف تطول مجمل المسائل الأخرى، بما في ذلك المصالح الإقليمية الإيرانية في المنطقة.
على ضوء ذلك، يمكن فهم جانب كبير من الانكفاء الإيراني عن المواجهة العسكرية مع إسرائيل، باعتبار أن جذر الصراع ليس في إسرائيل ولا في إيران، وإنما في دول الجوار العربي. وإذا استطاعت إيران الحصول على ما تريده من نفوذ ومصالح ضمن المحيط العربي، بالتنسيق مع واشنطن ومن ثم إسرائيل، فما الذي يوجب عليها الدخول في مواجهات أو حروب عسكرية مع تل أبيب؟