يكثر الحديث عن حق المرأة في الميراث، بخاصة في إطار النشاط النسوي، وهو نشاط محمود وتوعية ضرورية، ومن أكثر المواضيع إلحاحاً في مجال تمكين المرأة من حقوقها الاقتصادية. ولعله من واجب الرجال عامة، المثقفين والمتعلمين خاصة، المساهمة في هذه التوعية وتنفيذ متطلباتها. ويأتي هذا النشاط التوعوي في جانب منه، في إطار حالات الوعي التي أفرزتها الثورة السورية والتحول المفاهيمي الناجم عن انتشار المعرفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي وعمل المنظمات.
تعيش المرأة الفراتية اليوم في إطار ثلاث سلطات هي: سلطة النظام (بآلياتها القديمة) على الضفة اليمنى، وسلطة قسد في الضفة اليسرى، وسلطة الجيش الوطني في عدد من المناطق، وهذه السلطات الثلاث تتحاشى الاصطدام مع السلطات الاجتماعية المحلية، مع أن قسد تكثر من المنظمات التي تكتب الكثير من الشعارات على حيطان المدارس والمنشآت العامة، وتحظى قسد بدعم دولي منظماتي في سبيل تمكين المرأة من حقوقها.
قد يسأل متابع لا يعرف طبيعة المنطقة الفراتية: ما الإشكال في التوريث وهو منصوص عليه دينياً في القرآن الكريم وكذلك في قانون الأحوال الشخصية السوري بكل وضوح؟
وفي الإجابة يمكن القول: الأمر يعود في جزء كبير منه إلى المفهوم العشائري للملكية، وانتقال المال ومفهوم الاقتصاد، حيث إن جزءاً من وجود العشيرة يقوم على التفاخر بالملكية ولعل معظم معارك العشائر تاريخياً هي معارك ملكية، وسيطرة، سواء أكانت هذه السيطرة مجدية اقتصادياً أم أنها حالة رمزية، لذلك فإن أي تعد على الملكية يعد تعدياً على حمى العشيرة، وأذكر أنني شهدتُ في طفولتي حالات ثأر وقتل وتهجير بين جيران وأقارب نتيجة الخلاف على أمتار مربعة قليلة من أرض غير صالحة للفلاحة، وكنتُ أتساءل بعقل طفل: لماذا يحدث ذلك؟ وما فائدة تلك الأمتار! وما كنت أدرك المفهوم الرمزي للملكية في ذهن العشيرة!
بل إنني سمعت مرات عدة أن منع حالات تزويج البنات إلى أفخاذ أو عشائر أخرى أحد أهدافه المحافظة على ملكية العشيرة! واستمرارها بجذر العائلة الأصلي وضرورة التتالي في الملكية محافظة على سمعة العائلة ورمزيتها في مجتمعها!
لا يتمّ تكوين المرأة أو تربيتها في المجتمعات العشائرية والاقتصاد الفلاحي على أنها شخصية مستقلة، (بل ومعظم الرجال كذلك) بل هناك نمط الشعور الجمعي والملكية الجمعية
ها هنا يطغى العرف العشائري على القانون المدني والمرجعية الدينية في نوع من تواطؤ المصالح والمحافظة على ما هو موجود سابقاً، ونظراً لأن مرجعية العشيرة هي الأهم فإن الأشخاص من الصعب أن يتجاوزوا وعيهم العشائري نحو الوعي الفردي الذي يستمد مكوناته من القانون المدني أو جوهر دينه الذي يؤمن به. وإن أُتْبِعَ هذا السؤال بسؤال آخر: لماذا لا تطالب المرأة بحقها في الميراث؟
يجيب المجيب: لا يتمّ تكوين المرأة أو تربيتها في المجتمعات العشائرية والاقتصاد الفلاحي على أنها شخصية مستقلة، (بل ومعظم الرجال كذلك) بل هناك نمط الشعور الجمعي والملكية الجمعية، فكم من امرأة فراتية تمرض يقوم أخوها برعايتها والاهتمام بها ويتركها زوجها، أو إنْ ارتكبت خطأ يتخلى عنها زوجها ويعيدها إلى أهلها، ويقول لهم: حاسبوا ابنتكم!
هناك اتفاق غير مكتوب، بل عرف اجتماعي بين المرأة وأهلها والمرأة وزوجها والصهر وأهل زوجته أنها تابعة لأحدهما، وأولى بتابعيتها تابعية الدم من حيث الجذور، وهذا يرتبط بالوعي العشائري حيث يرفض الكثير من النساء مبدأ الميراث لأنه يمس بالعائلة التي تحميها وتحفظ حقوقها إنْ اعتدى عليها الزوج أو تعرضت لنكبة ما في حياتها من مرض أو خطأ أو اتهام!
لعل الحل الأوضح في هذا السياق هو تمكين سلطة القانون عبر التوعية والعلم وزرع المحافظة على حقوق الأفراد ومبادرة الدولة أو سلطات الأمر الواقع بإعطاء أصحاب الحقوق حقوقهم لكي تصبح ثقافة عامة منتشرة يغدو من الصعب العودة إلى الوراء بعد أن تترسخ.
لكن هل يمكن تحقيق ذلك في دولة رئيس نظامها مغتصب للسلطة؟ إنها دولة تقوم على مبدأ الاغتصاب وسلطة السلاح، لذلك يغدو مثل هذا المطلب في مراحل ما بعد النزاع أقرب للمستحيل منه للواقع!
السؤال الآخر: هل ننتظر كأفراد، أتيح لنا جانب من العلم والوعي انتظار سلطات الأمر الواقع وتغيراتها أم أنه من واجبنا المبادرة في إحقاق الحقوق وترسيخ ثقافة العدل والقانون؟ بالتأكيد من واجبنا ذلك، وأذكر أن شقيقي الذي يدير أملاك أبي كان منزعجاً جداً، وبقي سنوات لا يتواصل معي إلا في المناسبات حين أخبرته قبل نحو خمسة عشر عاماً أنني لا أريد من الأرض التي ورثها والدي إلا حقي الشخصي وأن من واجبه أن يعطي كل شقيقة من شقيقاتي التسع حقها من الأرض وميراثها. وقد شجعت أخواتي على المطالبة القانونية بحقوقهن، غير أنهن ما فعلن ذلك ولن يفعلنه فيما أحسب!
وقد أتيح لي وفقاً للقانون الهولندي أن أحدّد مآل ما أملك عند كاتب بالعدل مسبقاً، حيث الوصية أهم من الميراث، فقمت بتقسيم ما أملك بالتساوي بين ابني وابنتيْ، ولعل ما يجعل ابني (الذكر) لا يشعر بأحقية أكثر من أختيْه هو غياب السلطة الاجتماعية الذكورية وانتشار ثقافة القانون. وكذلك الشعور بالاكتفاء وأن هناك دولة تحمي الأفراد، بل إن كثيرا من الشباب والصبايا الهولنديات يرفضن مبدأ الميراث كي يبنوا حياتهم بعد الثامنة عشرة بأنفسهم، وكثير من الآباء يوصون بما يملكونه لجهات علمية أو خيرية محلية أو دولية.
هناك جانب آخر مهم في الحديث عن ميراث المرأة الفراتية هو أنها ليست وحدها في هذا التعرض للظلم، بل المرأة الريفية في سوريا عامة والمرأة كذلك في كثير من الشرائح الاجتماعية والدينية وفق ما ذكرناه أعلاه وسواه، إذ إن مبدأ الميراث للمرأة عند الطائفة الدرزية غير موجود، ومنصوص على ذلك، ولها (إن كان الأب أو الأخ نبيلاً) حق الانتفاع أو الذهاب إلى بيت المقاطيع، والمرأة عند الطائفة العلوية كذلك، وفي هذا السياق من غير المقبول من الرجل الفراتي والسوري عامة القول: إنني أهتم بأختي أو أقدم لها المساعدة أو أنني أحميها لكي يكون سبباً من حرمانها من حقوقها، هناك حقوق ميراث، وهناك واجبات وحقوق أخوّة ولا يعني القيام بحقوق الأخوّة أكل حقوق منصوص عليها! وحجة واجب النفقة من الزوج أو الأخ أو الشعور بالالتزام لا تعني أكل حقوق المرأة!
تمكين المرأة من حقوقها لا يمكن أن يحدث بين يوم وليلة، لكن لا بد من البدء فيه، ويجب أن تتساعد السلطات الاجتماعية والدينية وسلطات الأمر الواقع في تنفيذه، وليكن التمثيل السياسي الدولي لتلك الشرائح وسلطات الأمر الواقع والمساعدات في جانب منه مرتبطاً بتنفيذ جزء من تلك الحقوق.
الصراع على الميراث بين زوج المرأة وأبنائها من جهة وإخوتها وأبيها من جهة أخرى صراع بين ذكور على الملكية وليس صراعاً حقوقياً لتمكين المرأة، فالابن والزوج الذي يطالب بحقوق أمه أو زوجته غالباً لا يعطي أخته أو ابنته حقها من الميراث، وما حماسه في المطالبة بحقوق أمه أو زوجته إلا رغبة في الحصول على ملكية جديدة من أهل زوجته بصفتها مكسباً. وكم من حالة عايشتها يقوم الزوج باستعمال مال زوجته التي ورثته ليتزوج عليها، أو ليديره بطريقة ذكورية، في الوقت الذي لا تستطيع المرأة أن تشتري لباساً يليق بكرامتها أو تفيد منه في علاجها إن مرضتْ مثلاً، وفي هذه الحالة إن لجأت إلى أهلها فسيقولون لها: اذهبي إلى من أخذت مالنا من أجله؛ فتضاف حسرة جديدة إلى حسرات المرأة المكتومة!
مفهوم الدول الذكورية والمجتمعات الذكورية تجاه الملكية والقوة مفهوم متداخل ومعقد يرتبط بقضايا كثيرة وعادات وتقاليد بالية لن تنتهي بلحظة غضب عابرة
لا يقل التطرف الذكوري خيبة وبؤساً عن التطرف النسوي، ذلك أن المطالبة بالحقوق بغطاء التطرف لا يولد إلا التطرف وهو مثله مثل التطرف الديني والاجتماعي وسواهما، والمطالبة بالحقوق ليست غطاء مآس جديدة، وكونك ضحية لا يعني أن تولد ضحايا جدداً وأنت في طريقك للمطالبة بحقوقك، والمراهقة الفكرية والمطلبية لا تحقق شيئاً غير النقمة والغضب، لذلك لا بد من التعقل والتدرج والتنظيم والتخطيط.
مفهوم الدول الذكورية والمجتمعات الذكورية تجاه الملكية والقوة مفهوم متداخل ومعقد يرتبط بقضايا كثيرة وعادات وتقاليد بالية لن تنتهي بلحظة غضب عابرة، والحل الأفضل هو تعزيز قيم المواطنة والمساواة وحقوق الفرد سواء أكان رجلاً أم امرأة وتشريع قوانين واضحة وأن تكون الدولة وصية على تنفيذها، وهذ جزء من حلمنا بسوريا المستقبل التي يجب أن نحرص فيها على صيانة الحقوق وتعزيز ثقافة القانون وصناعة اقتصاد يستطيع أن يساعد في تنفيذ لك!
الذكورية في المجتمع السوري ليست خاصة بالرجال، بل إن هناك كثيرا من النساء بعقلية ذكورية، نتيجة غلبة تلك الثقافة ووهجها، تجد كثيرا من الأخوات غير المطالبات بحقهن في التوريث يقاطعن أختهن إنْ طالبت بحق الميراث!
هناك من يسأل: لماذا خصصتَ المرأة الفراتية بهذا المقال والمسألة عامة ليست في سوريا فحسب بل المشكلة شرقية؟ الإجابة بسيطة جداً، أريد أن أبدأ من نفسي وزملائي ومعارفي، ومن شقيقاتي وعائلتي لأشجعهن على المطالبة بحقوقهن كوني عايشتُ كثيرا من الظلم الذي تعرضتْ له مع أنها أكثر من يعمل في الأرض ويزرع ويحصد، وإنْ أراد الفراتيون التمايز عن سواهم فبمزيد من العدل وإحقاق الحقوق، وليس في تقليد الظالم وترسيخ ثقافته!