بعد أن وصلت الثورة السورية إلى ما هو أقرب إلى أفق مسدود لحراكها على الأرض، وتغلغلت موجات من اليأس في نفوس نشطائها والمؤمنين بها. ها هو حراكها يولد هذه المرة، بتشجيع وقيادة من شبكات القوى المجتمعية التقليدية (شيوخ الدين وشيوخ العشائر) فيما يشبه موجة جديدة في تاريخها، مما يدفع للتساؤل عن أسباب ذلك، ومدى عمق تأثير تلك الشبكات التقليدية في عموم المجتمع السوري، وهل باتت تلك الشبكات ميالة للتغيير والنأي عن سلطات الأمر الواقع التي تلاشت رمزيتها وصورتها.
في الموجة الأولى من تاريخ ثورات الربيع العربي كان الانحياز إلى الثورات والمشاركة فيها، بطريقة أو بأخرى، مسـألة أخلاقية لا لبس فيها: شعب يطلب الحرية مقابل أنظمة مستبدة وفاسدة، لذلك كل من وقف مع الفاسد المستبد وضعت عليه إشارة تعجب؟
اليوم؛ يجد المهتم بالشأن العام السوري (المثقف أحدهم)، نفسه حائراً، وهو يتأمل المشهد: قوى المشايخ العشائرية والدينية تقف ضد ميليشيات الأمر الواقع المفروضة على السوريين: النظام السوري وقسد مثالاً، ومتى ما أتيحت الفرصة للآخرين سنرى ذلك أكثر في مناطق الجيش الوطني أو هيئة تحرير الشام! (ورأينا صوراً منه في الموقف من أبو عمشة مثلاً).
كلما ظنت سلطات الأمر الواقع بمختلف ألوانها أنها تخلصت نهائياً من هذا الحراك السوري الشبابي، وتمكنت من تحديد مسار التغيير بإيقاعها وبطريقتها هي، تتولد قوى جديدة وحركات مختلفة ومفاجئة
كيف استطاعت ثورة 2011 "تهجين" ذاتها بكل هذه المتناقضات، وكيف استطاعت أن تجذب القوى التقليدية إليها ثانية لتحمل راياتها، التي ظنت، فترة من الزمن، أن تلك الثورة في وجه من وجوهها محاولة تقويض لها ولكل ما هو راسخ وثابت وقديم كما أراد لها متحمسون كثيرون!
ذلك سر ثورة السوريين وأحد حواملها الرئيسية: كسرُ اليقين!
إذ كلما ظنت سلطات الأمر الواقع بمختلف ألوانها أنها تخلصت نهائياً من هذا الحراك السوري الشبابي، وتمكنت من تحديد مسار التغيير بإيقاعها وبطريقتها هي، تتولد قوى جديدة وحركات مختلفة ومفاجئة، تدهش حتى أولئك اليائسين من مآلات الحراك الذي حمَّلوه كل أحلامهم المؤجلة والمكسرة!
ما هي سمات الموجة الجديدة في الثورة السورية ومدى تفارقها عن الموجة الأولى:
- إعطاء فسحة للقوى التقليدية للقيام بالاحتجاج بطريقتها هي، وليس عبر مفهوم الثورة التي تريد التخلص من كل بال وقديم، بمعنى آخر: القوى التقليدية لا تفهم الثورة كما يفهمها شباب 2011 ولها طرائقها القائمة على الخبرة والمناورة والتدريج وترك الأبواب مفتوحة، لِنقلْ: النتيجة واحدة والمطلب النهائي واحد لكن الطرائق تختلف! وقد لبّت الموجة الجديدة رغبة القوى التقليدية باستعادة شيء من دورها من خلال التقاطع مع حاجات الناس، وهو في شكل من أشكاله ثورة على تاريخها في كونها داعية إلى عدم الخروج على ولي الأمر أو القوي الحاكم وصاحب السلطة والتصالح معه.
- محاولة الموجة الجدية التفارق عن عدد من ثيمات الموجة الأولى، أو لِنقلْ: التعلم من الدرس، لذلك فإن الكثير من كهنة الموجة الأولى لا يسعدهم ذلك، ويحاولون تسفيه الموجة الجديدة لأنها لا تشبه ما هو موجود في رؤوسهم! ها هي الموجة الجديدة تلتفت إلى تفعيل العامل المحلي في تحريك الثورة متمثلاً برايات محلية، وقد غابت تلك الرايات المحلية، حين كانت مسألة المشاركة بالثورة محسومة وأخلاقية ولها علم واحد! وقد لبّى حراك القوى التقليدية مصالح جماعتها الأقرب وتفاصيلها اليومية، على طريق ما يمكنه تسميته مصلحة جماعة السوريين الكبرى. وقد أعطاها هذا الاهتمام بالدائرة الأصغر الكثير من الزخم والمشاركة الفاعلة والدينامية لأنها خاطبت فئات المجتمع المختلفة. وتلتفت الموجة الجديدة إلى "داخل البيت" بعد أن كانت الموجة الأولى معنية بحراك الشارع والمقولات الكبرى، تعيد علاقتها مع المكان والحاجات والدوافع، بعيداً عن أي توصيف معياري ينتقص من هذ الموجة أو تلك.
- نبَّهت الموجة الجديدة إلى أن كل ديموغرافية أو جماعة أو بقعة جغرافية سورية لها محركاتها ومؤثراتها، الأكثر فاعلية من سواها، وهذا ما غاب عن الكثير من المهتمين بالشأن العام من السوريين، إذ إن الكثير منهم لا يزال عالقاً في عنق زجاجة زخم 2011 ولا يستطيع تصور موجة جديدة من الثورة السورية إلا ضمن حيثيات وبيئة ذلك الزخم، الذي لن يعود ثانية، قبل تعلم الدروس من الموجة الأولى وأخطائها! وبعد أن تعرف الكثير من السوريين إلى بعضهم لأول مرة، اكتشفوا أن المجتمع السوري مجتمعات وأن القوى الفاعلة فيه قوى مختلفة كلياً من محافظة إلى محافظة أو من بيئة أو ديموغرافية إلى ديموغرافية أخرى، وأن هناك قوى اجتماعية تقليدية مؤثرة كثيرة، يمكن الاقتراب من متطلباتها وإجراء نوع من مراجعة الذات والخيارات في ضوء حراكها.
- تحرج الموجة الجديدة في الثورة السورية "فكرة المنتصر عسكرياً" في سلطات الأمر الواقع، حين تنقله إلى فشل مرحلة ما بعد المنتصر وإدارتها والقدرة على القيام بالتزاماتها، ها هي تعريه، وتكشف له أن انتصاره قام على فكرة تغييب المختلف والفاعل، لأنه لا يستطيع إدارة مرحلة ما بعد الانتصار العسكري، حتى على مستوى الحاجات اليومية والمعيشية.
- تكشف الموجة الجديدة عطب شعارات سلطات الأمر الواقع ورثاثتها الوجودية، حيث إنها في خطابها الإعلامي ومؤثريها الاجتماعيين استعملت نفس شعارات مرحلة الصراع العسكري السابقة، ولم تستطع إيجاد شعارات أو مقولات جديدة لـ "كذبها الجديد" وتمسكها بالسلطة فازدادت صورتها قبحاً على قبح!
- جعلت الطاقة الفيزيائية التي أحدثها فعل الثورة السورية والطاقة التدميرية التي قامت بها سلطات الأمر الواقع القوة الكامنة لدى السوريين قوة متضاربة ومشتتة ومتصارعة؛ أي أنها في حالة دوران وحراك، لذلك فإن فعل بحثها عن مناطق وجودية جديدة لكي تعيش مرة أخرى واردٌ في كل لحظة، متى ما وجدت سبيلاً إلى التبلور للتعبير عن وجودها كقوة فاعلة، لذلك فإن فعل الثورة عند السوريين لم ينته، بل إنه قابل لإعادة التبلور والتموضع والظهور في كل لحظة بطرائق جديدة ومغايرة.
على الرغم من كل ذلك الحراك وتغيراته ومبشراته لا يزال مثقفون سوريون وناشطون ومهتمون بالشأن العام يقاربون الحراك السوري الحالي بصفته "حراكاً متخلفاً" يقوده رجال دين أو شيوخ عشائر، وهو وفقاً لمفهوم أولئك المهتمين بالمجال العام ليس بفعل سياسي، ولا يعول عليه لأنه فعل ذو دوافع غاضبة وسريعة وفاعلة ولا يركن إليه، وهو ليس فعلاً سياسياً تقوده أحزاب أو قوى مدنية تتقاطع مع فكرة حقوق الإنسان أو مع المطالب الكبرى وحق المشاركة بالفعل السياسي لأنه غالباً ما يرتبط بتلبية حاجة شريحة اجتماعية سورية ما!
المشهد السوري برمته حمال أوجه، وقواه تغلي وتؤكد أن الحياة حبلى بالمفاجآت أو التغييرات
يبقى السؤال: من أين يأتي هذا اليقين عند أولئك المهتمين بالفضاء العام وحراكه؟ من القراءات أم من فلسفة الثورة أم من حركة التاريخ والتجربة؟ هل فاتهم أن المجتمعات قادرة على إفراز قوى حاملة لمطالبها كل فترة تاريخية، وما لجوؤها إلى القوى التقليدية والشبكات الاجتماعية الفاعلة إلا لون من ألوان الرغبة بالتغيير بطريقة أخرى مختلفة!
المشهد السوري برمته حمال أوجه، وقواه تغلي وتؤكد أن الحياة حبلى بالمفاجآت أو التغييرات. وما يجعل ذلك التغيير ممكناً أن سلطات الأمر الواقع لا تزال تعادي التغيير حتى لو كان من أجل مصلحتها هي، بل تعيد إنتاج الأشخاص أنفسهم بشعاراتهم ورموزهم لأنها قوى ساكنة وتعتمد على رد الفعل الإقصائي، ولا تدرك حركة التاريخ وتغير مفهوم القوى الفيزيائية المحركة له، من أجل ذلك فإنها ستنهار يوماً ما، لأن ثباتها سيجعلها تتعفن وتصدأ وبالتالي ستتفتَّت، ليس لأسباب عقائدية أو ثورية فحسب، بل نتيجة كونها قوى ثابتة ومتكلسة والعالم متغير ومتحرك ودينامي!
هل يستطيع المهتم بالشأن العام السوري التفكير خارج "صندوقه التقليدي" ويبحث عن المزيد من "الذرات الثورية" داخل القوى التقليدية في المجتمع السوري وكيف يتقاطع معها أو يوظفها أو يعيد النظر باعتقاداته الثورية؟ أم أنه سيبقى جالساً في "صندوقه" ينتظر قوة عالمية أو قوة اجتماعية تتفجر ثانية لتحمل حلمه الثوري في التغيير!