يترقّب كثيرون مدى تأثير غياب الرّئيس الإيرانيّ إبراهيم رئيسي ووزير خارجيّته حسين أمير عبد اللهيان على ملفّات الشّرق الأوسط. رهانٌ كهذا قد يُعدّ ضرباً من الغوص في "المُسلّمات". فالسّياسة الدّاخليّة والخارجيّة لإيران يرسمها ضابط إيقاعٍ واحد هو المُرشِد عليّ خامنئي.
من يقرأ نتائج الانتخابات الإيرانيّة منذ 2009، يومَ حُسِمَ القرار بإسقاط "مير حسين موسويّ" وتنصيب محمود أحمدي نجاد رئيساً، على الرّغم ممّا عُرِفَ يومها بـ"الثّورة الخضراء"، يُدركُ أنّ نتيجة الانتخابات المُقبلة ستكون لصالح التّيّار المُحافظ.
أمّا الرّئيس السّابق حسن روحاني، فعلى الرّغم من انتمائه للتّيّار الإصلاحيّ، إلّا أنّ فترة رئاسته شهِدَت ولايتيْه بين 2013 و2021 صعود النّفوذ الإيرانيّ والاشتباك المُباشر مع الدّول العربيّة. والتّغلغل الإيرانيّ في سوريا والعراق ولبنان واليَمن.
هذا يُؤكّد أنّ نسخة روحاني "الإصلاحيّة"، هي نسخة مُعدّلة عن نموذج "مير حسين موسويّ" أو محمّد خاتمي. بكلامٍ آخر، هي توزيع أدوار للاستهلاك الدّاخليّ وليسَ الخارجيّ.
تختلف الوجوه في إيران، وقد يختلف الإصلاحيّون والمُحافظون حولَ دعمِ المحروقات من عدمه، أو حولَ فرضِ الحجاب بالقوّة أو لا. لكنّ السّياسة الاستراتيجيّة للدّولة لم تكُن يوماً في يدِ من يتولّى منصب الرّئيس.
في عهد "المحافظ المُتشدّد" إبراهيم رئيسي، شهِدَت إيران إعادة العلاقات مع الدّول التي خاصمتها طيلة ولاية "الإصلاحيين". فأبرمت اتفاق بكّين مع السّعوديّة، وتبادلت الزّيارات معها ومع الإمارات والبحريْن. كما أنّ اللقاء الأخير بين رئيسي ونظيره الأذربيجانيّ إلهام علييف وتحسّن العلاقات المُتوتّرة منذ أكثر من ربع قرنٍ بين طهران وباكو، يأخذنا إلى النّتيجة التي بدأنا بها المقالة: "ضابط الإيقاع علي خامنئي".
تختلف الوجوه في إيران، وقد يختلف الإصلاحيّون والمُحافظون حولَ دعمِ المحروقات من عدمه، أو حولَ فرضِ الحجاب بالقوّة أو لا. لكنّ السّياسة الاستراتيجيّة للدّولة لم تكُن يوماً في يدِ من يتولّى منصب الرّئيس، الذي وصفه الرّئيس الأسبق محمّد خاتمي يوماً أنّه "سيفٌ بلا نصلٍ".
تتأرجح الخيارات الرّئاسيّة بين 3 وجوه مُحافظة في حال قرّرَ خامنئي المُضيّ قُدماً في استكمال ما بدأه مع رئيسيّ:
الأوّل: نائب الرّئيس الحاليّ محمّد مخبر، الذي تذخر سيرته الذّاتيّة في العمل في مجال المال والاقتصاد. كما كانَ عضواً في صفوف الحرس الثّوريّ برتبة ضابط.
الثّاني: رئيس البرلمان الحاليّ، وقائد سابق للقوّات الجويّة في الحرس الثّوريّ. وهو أيضاً أصوليّ تبوّأ يوماً قيادة "مقرّ خاتم الأنبياء"، الذّراع الهندسيّة للحرس الثّوريّ. كما شغلَ منصب عمدة طهران، وهو المنصب نفسه الذي عبرَ خلاله الرّئيس السابق محمود أحمدي نجاد نحوَ الرّئاسة. كما أنّه مرشّح سابق للرّئاسة في 2005 و2013 و2017.
الثّالث: عُمدة طهران الحاليّ علي رضا زاكاني، وكانَ نائباً عن مُحافظة قُم. يُعدّ مقرّباً من المرشد علي خامنئيّ، وقد وافقَ على ترشيحه مجلس صيانة الدّستور ليترشّح للمنافسة على الرّئاسة في 2021.
لكنّ أحداً لا يستطيع أن يعلَم ماذا يدور في فكرِ خامنئي؟ خصوصاً إذا ما كانَ يتّجه لعودة "الإصلاحيين" من نموذج حسن روحاني ووزير خارجيّته محمّد جواد ظريف إلى الرّئاسة. إذ سارعَ كلٌّ منهما إلى التعزية بمقتل رئيسي ومن معه. ووصلَ الأمر بجواد ظريف أن حمَّلَ "العقوبات الأميركيّة مسؤوليّة سقوط مروحيّة الرّئيس الإيرانيّ". وهذا يُقرأ وكأنّه تقديم أوراق اعتمادٍ للمرشِد الأعلى في حال قرّرَ أن يُنتِجَ رئيساً إصلاحيّاً يُخاطب به الدّاخل لا الخارج.
إن جاءَ دونالد ترامب، قد يكون خامنئي مُفاجئاً وأكثر براغماتيّة تجنّباً لمعاملة قاسية لا تزال آثارها داخل إيران واقتصادها جليّة منذ قرّرَ الرّئيس السّابق الانسحاب من الاتفاق النّوويّ ومُمارسة سيّاسة "الضغط الأقصى" على طهران وأذرعها.
بالعودة إلى السّياسة الخارجيّة، تشير مُسارعة طهران إلى تعيين مساعد عبد اللهيان علي باقري كنّي لتصريف أعمال وزارة الخارجيّة إلى أنّ المُرشد حسمَ قراره باستكمال تنفيذ السّياسة التي كانت قائمة تجاه الغرب والعرب والشّرق الأوسط.
إذ شغلَ باقري كنّي منصبَ كبير المفاوضين في محادثات فيينا التي كانت تُحاول العودة إلى "خطّة العمل المُشتركة" المعروفة باسم "الاتفاق النّوويّ 2015". كما تُؤكّد المعلومات أنّه شاركَ عدّة مرّات، آخرها في الأسابيع الـ3 الماضية في مفاوضات غير مباشرة مع منسّق الشّرق الأوسط في مكتب الأمن القوميّ الأميركيّ بريت ماكغورك في العاصمة العُمانيّة مسقط.
وصلت هذه المفاوضات إلى نقاطٍ مُتقدّمة، لكن غير حاسمة، بين واشنطن وطهران. وبحثت بشكلٍ أساسيّ "ربطَ النّزاع وخفض التصعيد في الشّرق الأوسط"، خصوصاً بعد أن قصفَت إسرائيل قنصليّة إيران في دمشق، والرّد الذي قامت به طهران بعد أيّام من المفاوضات غير المباشرة مع واشنطن.
يُشكّل هذا الخيار أولى إرهاصات سيّاسة المُرشد الخارجيّة. فهو يريد بقاء الأمور كما هي عليه إلى حين انجلاء غبار المعركة الرّئاسيّة في الولايات المُتحدة. فإن أعادت صناديق الاقتراع جو بايدن إلى ولاية جديدة، قد يحسم خامنئي كثيراً من الملفّات العالقة. وإن جاءَ دونالد ترامب، قد يكون خامنئي مُفاجئاً وأكثر براغماتيّة تجنّباً لمعاملة قاسية لا تزال آثارها داخل إيران واقتصادها جليّة منذ قرّرَ الرّئيس السّابق الانسحاب من الاتفاق النّوويّ ومُمارسة سيّاسة "الضغط الأقصى" على طهران وأذرعها.