لم يكن في اغتيال الظواهري مفاجأة كبيرة للعالم، وليس سراً أنه كان تحت قبضتهم على الرغم من تنقلاته السرية، فملاحقته من مكان لآخر لم تتوقف، اختباؤه طوال السنوات الأخيرة، لم يحل بينهم وبينه، وإن زعم الأميركان بأن عملية تحديد مكانه، كانت نتيجة عمل دقيق ودؤوب، لكن لمجرد إبقائه تحت أنظارهم لتحديد ساعة اغتياله، مع مراعاة تنفيذ عملية القتل بحيث تنجز مع الحد الأدنى من مخاطر تعريض عائلة الظواهري والمدنيين القريبين منه. فالعملية يجب أن تكون نظيفة. أما التغطية السياسية فمتوافرة، عدا السمعة الإرهابية للظواهري كمنظر للقاعدة، وزعيم ذي سمعة طائرة في مجال الإرهاب، ومسؤوليته عن هجمات عدة في آسيا وأفريقيا وبعض الدول الأوروبية. بالتالي شكلت قيادته المستمرة للقاعدة هدفاً قانونياً للقضاء عليه. وبالنسبة إلى اتفاقيات أميركا مع طالبان، كان وجوده في كابول خرقاً واضحاً لها.
كان مطلوباً على الدوام، وفي المراحل الأخيرة، بات الوحيد من كبار منظمة القاعدة التاريخيين الباقين على قيد الحياة، وكان من الممكن أن يرحل في وقت مبكر، لكن الإدارات المتعاقبة في البيت الأبيض، كانت قد حجزت لكل رئيس إنجازاً في مجال الإرهاب، يساعده على إبقاء الحملة ضده مفتوحة، طالما يبيح لها الذرائع للبقاء في المنطقة، والتدخل السافر في بلدانها بحجة دائمة، كانت القضاء على الإرهاب، فلم يوضع له خاتمة، بقدر ما كان يتوالد حتى أصبح أشبه بخلية نحل لا تهدأ، لا تنتج العسل، وإنما السموم للإسلام والعرب.
هذا النسق في التصفيات المرحلية ابتدعته إدارة أوباما، في اغتيال رئيس القاعدة أسامة بن لادن، عدّ إنجازا له، سيليه الرئيس ترامب ويحقق إنجازا يفوق سلفه باغتيال أبو بكر البغدادي زعيم داعش، وبخصوص القاعدة سيقتل حمزة بن لادن بعد تضخيم أسطورة ابن زعيم القاعدة الراحل، المؤهل لتجديد شبابها، وإعداده ليكون خليفة محتملاً للظواهري بما يمتلكه من مهارات قيادية مهمة، إضافة إلى الارتباط الرمزي بوالده، تجلت حسب زعم الأميركان بدعوته إلى شن هجمات على نسق الذئاب المنفردة.
اغتيل الظواهري في مرحلة سبقها تراجعات ملموسة للقاعدة، تحوّل خلالها زعيم القاعدة من منفّذ مباشر للهجمات حول العالم، كما كانت أيام قيادة بن لادن، إلى محرّض عليها، وموجّه لها، يبارك ما تنفذه فروع التنظيم في مناطق انتشارها. حسب هذه التراجعات، بدا جلياً أن دور القاعدة صار منحصراً إلى حد كبير في سلسلة إصدارات مرئية وتسجيلات سمعية للظواهري يتحدث عن مواضيع مختلفة، مع إبداء الرأي فيها، ويشدد العزم على تنفيذ هجمات ضد أهداف غربية وعربية. يتبين أيضاً، من هذه الإصدارات، أن قيادة الظواهري للتنظيم لن تخرج عن هذا الطور.
الإدارات المتعاقبة في البيت الأبيض، كانت قد حجزت لكل رئيس إنجازاً في مجال الإرهاب، يساعده على إبقاء الحملة ضده مفتوحة
كان أبرز دليل على انتهاء سطوة القاعدة وتهديدها من داخل الإسلام الجهادي السياسي، بروز تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" بقيادة أبو بكر البغدادي، كان البدء بتسجيل الأفول الفعلي للظواهري لحساب صعود البغدادي الذي أخذ منذ العام 2012، بتحدي الظواهري ورفض الانصياع لأوامره، لا سيما بخصوص "جبهة النصرة" كممثل للقاعدة، وحاول تدميرها والقضاء على وجودها في مناطق واسعة في سوريا، ومنافسة فروع القاعدة في معاقلها المنتشرة حول العالم. ساعده في ذلك، نجاحات مقاتليه ميدانياً في العراق وسوريا، بإقامة "دولة الخلافة" في العام 2014، استقطبت هذه النجاحات آلاف المتأثرين بالأفكار المتشددة حول العالم، فتدفقوا إلى سوريا والعراق للالتحاق بدولة الخلافة، ما زودها بمواكب من الانتحاريين، جاؤوا مع أسرهم. أحدثوا نقلة خلال أعوام 2014 و2015، أكسبت البغدادي ولاء جماعات حول العالم أعلنت مبايعتها له، مع تأسيس فروع لتنظيمه حتى في مناطق نفوذ فروع القاعدة.
استفاد البغدادي من فوضى الربيع العربي، ومثله حاول الظواهري إيجاد موقع له داخل سوريا من خلال "جبهة النصرة"، شكلت فرعا للقاعدة. ثم نجاحه إلى حد ما، بتحريرها من قبضة البغدادي، وإصدار الأوامر للبغدادي بحصر نشاطاته في العراق، وكان قد خرج عن طوع القاعدة منذ أعلن عن قيام الخلافة. لم يطل الوقت عندما أعلن الجولاني زعيم "النصرة" عن تغيير اسم تنظيمه إلى "هيئة تحرير الشام"، وفك ارتباطه بالقاعدة. كانت تلك الضربة الأخيرة للظواهري، ما شكل الخسوف الأخير للقاعدة.
في عام 2019 سيكون في اغتيال البغدادي الذي بات يشكل الخطر الإرهابي الأكبر، بداية الأفول لتنظيم داعش على المدى الطويل. ولم يعد ثمة من عجلة على إنهاء الخطر الأصغر. بات اغتيال الظواهري تحصيل حاصل، تُرك للرئيس القادم ليكون إنجازا للرئيس بايدن، سيساعده على تحسين سمعته القيادية في إدارة الصراع مع روسيا من خلال أوكرانيا ومحاولته تشكيل حلف لا يتصدع لمجرد عوامل اقتصادية.
أطلق بايدن الرصاصة الأخيرة على القاعدة، التي يؤمل أن تتماوت وحدها، بعد انفصال "النصرة" السورية عنها، وكانت ما تبقى منها، أنكرتها ليواصل زعيمها الجولاني براجماتية لا تعني سوى البقاء قسرا بشتى الوسائل.
لا يعني اغتيال الظواهري ولا البغدادي ومن خلفهم وسيخلفهم سوى أن نهايات العمل الجهادي مرتبط بدول الغرب، من دون استثناء روسيا وإيران، وبعض الأنظمة العربية، وإذا كان لهذه التنظيمات أن تتجدد فباستثمار الإسلام السياسي، والتضحية بالآلاف من المخدوعين وتدمير دول وإعادة دول إلى حظيرة الدكتاتورية. وليس هذا ضربا في الغيب، فالثورة السورية التي كادت أن تنهي النظام الشمولي في سوريا، وتبدأ مرحلة مهمة من تاريخ كاد أن يكون صاعداً، اختطفتها دول المنطقة، ريثما ضاعت في زواريب الخلافات بين داعش والقاعدة والفصائل الإسلامية، ولم يعد ما تبقى منها إلا أنها تمول وتعمل لحساب مشغليها سواء في داخل المنطقة أو خارجها، ودائما بالتعاون بينهما.
يتركز خلاص سوريا ليس على التخلص من النظام الشمولي ولا الاحتلالات الأربعة فقط، وإنما أيضاً على هذا الاحتلال المتذرع بالدين، وما يمارسه بحيث لم يتميز عن النظام إلا بادعاء شريعة، الشريعة منها براء، وجاهل بحقائق العصر.