منذ حين لا يمكن تحديده بدقة، بدأ الوضع السوري يأخذ إيقاعا ثابتا، تجلى بالمراوحة في المكان من دون تقدم أو تراجع، بعد تراكم الأسباب، فالتصميم الإيراني بات واضحاً في التسلل الدؤوب إلى الداخل السوري وأصبح مكشوفا في إرادة إيران تحويل سوريا إلى مناطق عسكرية تابعة للحرس الثوري، مبعثرة على أرجاء الأرض السورية، وفتح جبهة ضد إسرائيل تنحو إلى إجراء اشتباكات حدودية لكسب تأييد العالم العربي والإسلامي، وإبعاد الأنظار عن الهيمنة الكلية على سوريا. يقابله الإصرار الإسرائيلي على شن ضربات جوية في مواقع تمركزها، لم تستثن المرافق الحيوية، ما أخرج مطاري دمشق وحلب عن الخدمة. مثل هذه الضربات أثارت قبل سنوات استنكار بعض الجهات الدولية، لكن تكرارها ووضوح الهدف الإيراني، لم يعد يثير حتى الامتعاض من الشريك الروسي، وإن كانت كالمعتاد تحرج النظام السوري في تلك اللازمة حول احتفاظه بحق الرد التي يضطر إلى تردادها عقب كل ضربة.
كثيرا ما أوحت الخسائر الإيرانية بأن حرباً ستندلع بينهما، لكن إيران حافظت على الصمت رغم أنها هددت وتوعدت، لكن في النهاية، لم ترغب في التصعيد لحرصها على حسن سير مناوراتها في المفاوضات النووية، والعمل على النجاح في رفع العقوبات عنها، والنصائح الروسية بألا تسمح لإسرائيل بأن تستجرها إلى الإقدام على عمليات ستكون متهورة، إسرائيل مستعدة لها. لذلك كان استمرار هذا الوضع على هذا المنوال معقولاً من الطرفين، بدا كأنه ضمن تفاهم يحدده أن إسرائيل لا بد وأن تقصف، وعلى إيران توخي الحيطة من غاراتها، ومحاولة خفض خسائرها إلى الحد الأدنى.
كذلك، حرب المخدرات التي بدأت خفية، ما لبثت أن توسعت وتضخمت وأصبحت يومية وعلى عدة جبهات، تطول بلدان الجوار خاصة الخليج، تخترق حدودها البرية، أو بوساطة طرق التفافية بحرية إلى شطآنه. ما شكل حربا حقيقية، يقودها حزب الله والفرقة الرابعة الشهيرة بيدها الطليقة على الحواجز والترفيق وجبي الإتاوات، بينما شبيحة النظام تقوم بحماية مصانع الكبتاغون، وإعداد الشحنات وتمويهها.
خاضت الأردن الحرب ضد المخدرات على أمل ألا تكون الشريان الفعال لهذه التجارة، واستعانت بالأميركان والأوروبيين للعمل على إيقافه من دون أي ضمانة. فالنظام السوري وحلفاؤه غير مستعدين على الإطلاق للتراجع، فعوائد تهريب الكبتاغون باتت تشكل مداخيل وازنة، يعتمد عليها في تمويل الميليشيات والجيش والشبيحة، وتبييضها في استثمارات في الداخل والخارج، تجارة لا يستغني عنها، خاصة أنها غير مكلفة ولا يتطلب تصنيعها مصانع ضخمة، يكفي البدائية منها.
بينما الجيش الأميركي يراقب عن كثب، غير مقيد، لكن مكتوف الأيدي، عدا عن دعمه الأكراد، لا يفعل أكثر من منع تقدم بعض الآليات والدوريات نحو مواقعه، أو الرد على التحرشات الإيرانية، عدا ذلك لا يقدم شيئا مع أن لائحة ما بات مطلوبا من أميركا كدولة عظمى حشرت أنفها في سوريا، آخذ بالتراكم، ليست المساهمة في الحرب، وإنما التدخل لأسباب إنسانية يمليه موقعها في صناعة السلام في العالم، مثلا على الأقل أن تمنع الروس من التهديد المستمر بالتصويت دائما ضد أي إجراء يسهم بحل الأزمة السورية، إلى حد أنه خلال السنوات القليلة الماضية كانت ضد تمرير المساعدات الأممية عبر الحدود إلى سوريا باستخدام حق النقض. مع أنه حان الوقت أكثر من مرة حتى تفكر أميركا وحلفاؤها الأوروبيون ببديل آمن ومضمون يمكن العمل عليه لإطعام الملايين من النازحين في الشمال. من جانب إنساني أيضاً، متى ستشارك أميركا في جهود المحاكم الأوروبية الساعية إلى محاسبة نظام الأسد على الجرائم التي ارتكبها منذ بداية المظاهرات السلمية والفظائع التي ارتكبها خلال ما يزيد عن عشر سنوات من حرب، قد تندلع ثانية وتتجدد فظائعها؟ لقد جرى طرح أن تدعم أميركا تشكيل محكمة دولية خاصة بسوريا في لاهاي، ليست الأولى من نوعها، هناك أكثر من سابقة ابتدعتها أميركا نفسها، كما المحكمة الجنائية الدولية بالنسبة لما ارتكب من إبادة في البوسنة، والمحكمة الخاصة بلبنان التي تولت التحقيق في قضية اغتيال رفيق الحريري.
وطالما أميركا بعيدة عن اتخاذ هذه المواقف، فالنظام السوري لا يزال بعيداً عن الوقوف أمام محكمة الجنايات الدولية. بل بات من الواضح أنه بوسعه الإفلات من جرائمه حتى بعد مقتل نحو نصف مليون سوري، إلى جانب تشريد أربعة عشر مليون نسمة. وتوثيق الشبكة السورية لحقوق الإنسان نحو خمسة عشر ألف حالة وفاة من جراء التعذيب.
وفي مثال صفقة التخلص من الترسانة الكيماوية السورية أنموذجاً على اطمئنان النظام إلى أن المحاكم لن تطوله، وما دام أنه استعاد على أثرها القيام بهجمات كيماوية، وتم توثيق مئتي هجوم كيماوي ضد منازل السكان المدنيين والأفران والمستوصفات والأسواق الشعبية. هل نتحدث عن المقابر الجماعية؟ فلنتريث، ما زال في انكشاف مستمر.
هل نقول إن العالم أدار ظهره للمأساة السورية وتركها فريسة للطغيان؟ قد لا نبالغ في القول إن العالم يعاني من علامات اضطراب اللامبالاة، إذا كان قد تمكن من التغاضي عن الشر، فهو لا يعلم إلى أين يمضي على هذه الحالة من دون ضمير. إذا كانت القضية السورية الواضحة وضوح الشمس ما زالت تتعثر في كواليس الأمم المتحدة والدول الكبرى والدول الإقليمية منذ سنوات طويلة، من دون القدرة على إيجاد حل لها، فالعالم مريض مرضاً لا شفاء منه، إن ولادة عالم جديد أسهل من استمراره على هذا النحو.