فيما كنتُ أنتظرُ سيارة أجرة أمام القناة، تصادف مرورُ المذيع، الذي استضافني قبل دقائق، في برنامجه التلفزيوني الأسبوعي المتميّز، أوقف سيارته فجأة، وسألني: هل مشواري إلى منتصف المدينة؟
إبَّان الطريق، أخذتنا الأحاديث إلى أنَّ كلاً منّا لم يتناول طعام العشاء بعد، عرضتُ عليه فكرة أن نتعشَّى معاً، في مكان هو يختاره، فأجاب: المشكلة في مدينتنا الكبيرة هذه، أنَّ الطعام في المطاعم، ذات الإطلالة الجميلة، ليس بجودة المطاعم، التي ليس لها إطلالة!
وكأيِّ جلسةٍ، لا معرفة عميقة فيها، كان التركيز على الاهتمامات المشتركة عنصراً رئيسياً، حدَّثته عن ذكرياتي الإذاعية والتلفزيونية كـ "مستمع"، ثمّ كـ ضيف، ومعد برامج ومقدمها، وصولاً إلى عضو في لجنة اختيار المذيعين، يوم كنّا في سوريا.
استذكرتُ معه ثمانينيات القرن الماضي وتسعينيّاته، وكيف كنَّا نحن المستمعين نحفظ أصوات مذيعي مونت كارلو، وإذاعة دمشق، ولندن، وذكَّرته بأصوات كلٍّ من: حكمت وهبي، ماجد سرحان، وحمدي قنديل ونهاد تلاوي.. وابتسمنا؛ حين استذكرنا نجوم التلفزيون المعاصرين وثرواتهم: "لاري كينغ، وأوبرا وينفري، وفيل ماكجراو".
المُحاور المتميّز يبتعد عن الأسئلة الطويلة، وأنَّ مجمل وقت أسئلته لا يتجاوز عشرة بالمئة من مدة البرنامج!
وتابعتُ بلغة حكيم خمسيني، يبوح لابن الثلاثين وما حولها: كم تبدو مهمّة المذيعين شاقة في عصر السوشيال ميديا! وكيف غدا العمل التلفزيوني صنعة خالصة، وأنه لا برنامجا ناجحا، دون ميزانية ملائمة، وظروف عمل مناسبة، ورحنا نتبادل الأفكار عن عناصر البرنامج التلفزيوني الحواري، وكيف أنَّ المُحاور المتميّز يبتعد عن الأسئلة الطويلة، وأنَّ مجمل وقت أسئلته لا يتجاوز عشرة بالمئة من مدة البرنامج! وقادنا الحديث إلى سوريا ما قبل ثورة 2011 ومحاولات مأسَسة دراسة الإعلام فيها، وخطوات تحويل قسم الصحافة في جامعة دمشق إلى كلية إعلام، وقد كنتُ عضواً في اللجنة التي شكلها القصر الجمهوري، قبل الثورة، برئاسة وزيري الإعلام والتعليم العالي.
ورحنا نعدّد معايير نجاح المذيع مثل: الحضور والكاريزما، والقدرات اللغوية، ومتابعة المستجدات، وسرعة البديهة، والصوت الجيد، والثقافة الواسعة، والتوازن. وكانت الأمثلة عمَّن نعرف، أو نشاهد من زملاء فرصة لابتسامة، أو "شَلْية" ما!
تزامن حديثُنا عن علاقته مع زملاء الفريق الفني والتحريري، مع بدئنا بالتهام وجبة "الستيك"، وتحدَّثنا عن زملاء "الكنترول" وملاحظاتهم المتكررة: (شدْ ظهرك لو سمحت! وعدلْ جلستك، قاطعْ الضيف، لا تنسَ الضيف الثاني، ناقشه في الفكرة، كي لا تُحْسَب على القناة!) وختمنا طعامنا مع الحديث عن أن العمل التلفزيوني عملُ فريق، يتولى إعداد معظم ما يقدمه المذيعون، الذين يجب أن يكونوا على قدر كبير من المسؤولية والقدرة والمهارة؛ كي لا تتبعثر جهود الفريق! ونبَّهني صديقي كذلك إلى غياب "أساتذة" في فريق العمل، ممَّن عجنتهم التجربة، ابتسمتُ له: هذا أمر صعب في زمن محاولة "سسْتمتة" العمل!
كان الحديث عن "طق البراغي" أحد محاور جلستنا، التي أخذ منسوبُ الثقة بين الجليسيْن يتنامى بسرعة، وكيف أنَّ سياسة الأبواب المفتوحة، التي تتبُعها الإدارة الذكية، تجعل حيِّز "طق البراغي" محدوداً جداً! وأخذَنا الحديث إلى دور الإدارة في تأمين بيئة العمل المناسبة عبر دورات تدريبية، ونظام مكافآت ملائم، وضرورة وجود سفرة خارجية واحدة سنوياً، على الأقل، لكون السفر يجدّد نشاط المذيع!
واستذكرتُ معه مكانة المذيع الاجتماعية وشبكة علاقاته سابقاً، واستشهدتُ له بأنَّ المذيعة "عزة الشرع" حين كانت تأتي لتقديم امتحاناتها في كليّتنا، كنّا نتبادل الخبر بصفته ميزة للكلية! تحسّر صديقي: مرحلة القرن الماضي لن تتكرر، كان المذيع أحد نجوم المجتمع، ولم يكن هناك سوشيال ميديا! وتناقشنا حول كون "النجومية" سلاحاً ذا حدّين، وأن هذه المدينة الكبيرة تتيحُ له متابعة حياته الاجتماعية، دون إزعاج، وهذا ما لا يتاح لو كان في سوريا! ولا سيما أن مشاهدين كثيرين لا يفرِّقون بين المذيع وهو في الاستديو، وسلوكه كإنسان اجتماعي خارجه، خاصة من يرى أنَّ المذيع رمزٌ! فيستكثرون عليه الضحك بصوت عال، أو أن يأكل عرنوس ذرة في الشارع، أو أن "يشنكل" يديْه بيديْ من يحب! واتفقنا أن الزميلات المذيعات يعانين أكثر من الذكور، أسعدني تفهّمه خصوصية زميلاتِه، فسألتُه: لماذا لا تتزوج إحداهن؟ ابتسم: ملتُ إلى إحداهن، لكنني وجدتُ أننا سنظلم بعضنا، قناعتي أن زواج الزملاء المذيعين، غالباً، غير ناجح!
مهنة المذيع – كما قال- تحتاج إلى "عين زرقاء" ودعاء أمّ، صباح مساء، لأنَّ إمكانية الوقوع في الخطأ واردة في أية لحظة، شبَّهتُ له هذه المهنة بـ "طنجرة حليب أمي"، يوم كانت تغليه على الجمر، وما إنْ تلتفتَ لحظة إلى جهة أخرى، حتى يطفو الحليب، وتذهب القشطة! تلك مهنةٌ يجب ألا يبقى فيها المذيع أكثر من عقد من عمره، لكنَّ عليه مثل لاعب كرة القدم أن يعرف متى يتوقف!
هذه المهنة محطة في حياة المذيع، وليست عملاً دائماً، وأنا أهرب من أن تصبح شغفاً، إنها مهنةٌ بلا أفق، وفرصة العمل في القنوات المشهورة أقرب لضربة الحظ! قد يكون طموح المذيع الجديد أن يصبح مذيع أخبار، أو أن يكون عنده برنامجه الخاص، وماذا بعد؟ سيبقى تأخرك عن البصمة عبئاً عليك، وغايتك إرضاء قسم الموارد البشرية، كي لا تُقتطع ساعات التأخر من راتبك!
علاقة المذيع بالقناة التي يعمل بها، وفقدان جزء من حضوره حين يغادرها نحو فرصة عمل جديدة، كانت أحد محاور سهرتنا، وكذلك صعوبة الفصل بين ما يقدمه من أحداث، ومشاعره الخاصة كإنسان.
تحدَّثنا عن أمراض مهنة المذيع: وجع الظهر، والسُكَّر، والضغط، وصولاً إلى وجع القلب، ثم تذمَّر: بعد أن تعمل لسنوات، ستمرّ بظروف صعبة أحياناً يكون مزاجك فيها خارج التغطية، أو لديك مشكلة شخصية، ستدرِّبُ نفسك أن تكون آلة ربما، وستملّ الإضاءة والمكياج اليومي وآثاره على البشرة، ستلبسُ ألواناً لا تحبُّها مرة، وتكون محظوظاً إنْ توافق خيارُ المختصة بالملابس مع الألوان التي تميل إليها، غبطْتُه على أنَّ المحطة التي يعمل بها تؤمِّن ملابس جيدة لمذيعيها، وقارنتُ ذلك مع تجربتي مع "ملبوسات آسيا" في أثناء تقديم برنامج (هوامش ثقافية) عبر الفضائية السورية قبل الثورة، وفصَّلتُ له في معنى أن تقدم برنامجاً تلفزيونياً، دون ميزانية، أو مكافأة!
وكي لا نجعل الجلسة جلسة أوجاع، ذكرتُ له حادثة في أول ثلاثينيات العمر، إذ وعدتُ صبية، تعلَّق قلبي بها، أنَّني سأعترف بحبِّي لها على الهواء مباشرة! وتشاء المصادفات أنْ أترافق معها لاحقاً كضيف في برنامج للمذيعة "هيام حموي"، غير أنَّني في لحظة تفكير بفقدان الوظيفة، وأنَّ المخابرات ستعتقلني، قد تراجعتُ، عن جنون الحب اللذيذ!! بادرني المذيع: هل أنت نادم الآن؟ قلتُ له: نعم! ليتني فعلتُها، ما أجملها من لحظة!
حدثتُ صديقي المذيع عن فكرة أن يبقى العمل في الإعلام هواية محبَّبة، وعملاً إضافياً، وأنَّني ابتداء من عملي معدّاً ومقدّماً للبرامج الثقافية في إذاعة دمشق وأنا في الخامسة والعشرين، وصولاً إلى العمل مقدماً للبرامج الثقافية، عبر الفضائية السورية، بالتزامن مع عضوية مجلس إدارة الفضائية التربوية، ومسؤولاً عن برامج وزارة التعليم العالي فيها، وأنا في الأربعين، بقيتُ أتعامل مع الإعلام بشغفِ "علاقة حبّ"، وحده الشغف يخفّف من أوجاع الإعلام!
فاجأني بردّه: ربَّما في زيارتك القادمة لن تجدني في هذه المدينة! قد أغادرها، أو أضيع وسط حاراتها كمتصوّف خاب رجاؤه بهذا العالم!
بادلني صديقي المذيع تأكيد فكرة الشغف، حتى إن فناجين قهوته في المنزل، هي ذاتها التي طُبِعَ عليها "لوغو" القناة التي يعمل بها! ذكّرتُه بأنَّ الخروج من جو العمل ضروري، حتى يشتاق إليه ثانية، وقلتُ مداعباً: لا تهتم، فناجين قهوتك علي، سأرسلُها لك من أمستردام!
وفيما كنَّا نشرب قهوتنا في الثانية صباحاً، اتفقنا أنَّ السهر أخذ الكثير من طاقة وجوهنا، وأننا في مرة قادمة سنأخذ لقطة "سيلفي"! أصرّ صديقي المذيع على أن تكون تكاليف الجلسة على حسابه، وافقتُه، شرطَ أن أدعوه في زيارة قادمة إلى مطعم شعبي، في "الفاتح"!
فاجأني بردّه: ربَّما في زيارتك القادمة لن تجدني في هذه المدينة! قد أغادرها، أو أضيع وسط حاراتها كمتصوّف خاب رجاؤه بهذا العالم!
وافقتُه، نعم، آملُ أن يسقط النظام، ونتعشَّى في حارة دمشقية، حيث نشعر أن الأمنيات أقرب!