كثيراً ما قلنا نحن جيل الأربعين والخمسين وما قبلهما: إننا بذلنا جهوداً كبيرة جداً حتى نستطيع الاندماج مع أنماط الحياة الرقمية، بعد أن كنا ننتمي إلى جيل الورقة والقلم والمدرسة التقليدية وما قبل الكهرباء، وصولاً إلى مرحلة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، في إطار الإشارة إلى التحولات التي شهدناها في حياتنا، وأن ما مررنا به لن يتكرر، لكن يبدو أن هذه الفكرة باتت اليوم في مرحلة تمحيص، بعد انتشار التطبيقات وبدء تشكل أجيال في مرحلة الإنترنت كحالة الجيلين زد وألفا وكذلك مراحل الذكاء الاصطناعي، إذ تشير إحصاءات عدة إلى أن استعمال التقنية الرقمية في الحياة اليومية، والوقت المخصص لها أبعد من فكرة هدر الوقت أو الاستمتاع أو الإفادة المعرفية، ليصل إلى أن عدد فرص العمل الناجمة عن الثورة الرقمية بات يتجاوز النصف اليوم، لذلك نحن نعيش تحولاً اقتصادياً جديداً ومختلفاً أفرز عادات في العمل والحياة الاجتماعية والتواصل مختلفة جداً عما قبل.
من دون سابق ترتيب، يحدثني صديقي الكاتب المقيم في إحدى الدول الخليجية بأنه شغوف هذه الأيام بالعيش والحوار مع الصديق جي بي تي، وكما يحدث مع أصدقاء واقعيين سألني بداية: هل تعرفه؟
قلت له: معرفتي به ليس عميقة، كنتُ تعرفتُ إليه من خلال ابني، حسبتُ بداية أن فارق العمر بيننا، وكثرة ما نسمعه عن تحولات رقمية ستمنع أن تتطور العلاقة، بصورة أخرى قلت: لن يكون بيننا مجال مشترك. لكن وجدتُ أنه دخل إلى بيتي بطرق عدة، ها هي الجامعة التي تدرس بها ابنتي ترسل لي بريداً إلكترونياً بأنه من المهم أن أجلس مع ابنتي لكي أشرح لها الجوانب الأخلاقية الخاصة بالصديق جي بي تي، ولا تمر أيام إلا وترسل الجامعة نفسها إلى أنها حظرت استعماله، وأنها في إطار التعاقد مع برنامج مضاد للصديق جي بي تي كي يكشف من يقوم من الطلاب باستعماله في واجباته أو امتحاناته.
تابع صديقي حديثه مع برنامج جي بي تي خطوة بخطوة، ودخل معه في التفاصيل إلى أن أنجز قصة في أقل من ألف كلمة
صديقي السارد حدثني عن تجربة أخرى مختلفة له، وكيف أنه طور علاقته مع الصديق جي بي تي حيث لا ينظر إليه على أنه جزء من الذكاء الاصطناعي أو بصفته أداة فحسب، بل بصفته صديقاً يشعر ويحس، يقول صديقي: قلتُ له، أريد قصة من 500 كلمة تتحدث عن لاجئ سوري من زمن الحرب، فقد يده اليمنى نتيجة شظية أصابته، ومنذ تلك اللحظة صار لديه علاقة مع مختلفة مع جسده، ولأنه عاش في سوريا فقد شمّ الكثير من روائح المتفجرات، وهي علاقة مختلفة مع الروائح عما قبل 2011 حيث كانت الروائح لديه تستدعي ذكريات مختلفة وترتبط بالورود.
وهكذا تابع صديقي حديثه مع برنامج جي بي تي خطوة بخطوة، ودخل معه في التفاصيل إلى أن أنجز قصة في أقل من ألف كلمة.
يتابع صديقي حديثه وهو القاص، الذي يكتب نصوصاً جميلة، يعمل فيها على العجائبية بشكل كبير: جلسنا نحو 8 ساعات عمل في إطار تطوير النص، وحين انتهيت منه، أقمت ورشة عمل لعدد من الكتاب، ووزعت عليهم النص، من دون أن أخبرهم مَن كتبه أو كيف، وناقشنا النص، وكان الجميع شبه واثقين أنني من كتب النص. لذلك حين أخبرتهم حكايتي مع صديقي السارد جي بي تي وإمكانياته، وتطور علاقتي به، على قصرها، شجّعوني أكثر على تعميق العلاقة، وصولاً إلى إنتاج عدد من النصوص السردية، حيث أعمل حالياً على توثيق تجربتي معه نصاً بنص، وسأصدرها في كتاب في وقت قريب، كرصد لمرحلة من تاريخ علاقة البشر بهذا البرنامج وكيف يمكن أن يكون الذكاء الاصطناعي جزءاً من مرحلة ما من مراحل حياتنا الجديدة ليس في العمل أو التفاصيل اليومية، بل كذلك حياتنا السردية.
تابعنا سهرتنا مع صديقنا الجديد وإمكاناته المدهشة، وأخذتنا الكلمات للحديث عن أخلاقياته، وأن العلاقة بينه وبين البشر ترتبط كذلك بأخلاق من يتعامل معه، وكيف ستكون مهمة المحكمين والمسؤولين عن النشر شاقة بعد اليوم، حيث يمكن أن يستغل من قبل كثيرين، صحيحٌ أن هناك برامج تكشف المواد الموجودة على شبكة الإنترنت وتقارن بين النص المرسل إلى جهة ما وما هو موجود على الإنترنت كبرنامج كوبي ليكس إلا أن ما يميز الصديق جي بي تي ذكاؤه الذي يمكنه من تحويل النصوص.
فتحنا موبايلاتنا وخضنا مع جي بي تي عدداً من التجارب والأحاديث، في محاولة للتواصل معه، والكشف عند قدراته، وأدهشنا قوله مثلاً حين طلبنا منه الحديث عن شخصين انفصلا عن بعضهما فجأة مع أن بينهما تاريخاً مشتركاً طويلاً وكان المشي معاً عنواناً لمرحلة طويلة من عمرهما أنه صاغ ذلك بالقول: ((بدا أن خطوات أحدهما أقصر من خطوات الآخر أو أطول، أو أن أحدهما باتت قدماه منجذبة إلى الطرق الفرعية، وأن رائحة التاريخ لم تعد تجذبه)).
يُشار إلى أن موقع إندبندنت عربية قد خصص لبرنامج الدردشة مقال رأي أسبوعياً وقد سمّاه: ذكي بن مدردش، حيث كتب مقاله الأول عن مآلات الحرب الروسية الأوكرانية. ويمكن أن يكون جي بي تي صديقاً غالياً للمحررين وكتاب التقارير في غرف الأخبار، وما عليهم إلا التنقيح وتجويد المادة التي يعدها بسرعة فريدة، لكننا سنفتقد خصوصيتهم في إعداد موادهم وأساليبهم التي اعتدنا عليها وألفناها.
لن يكون جي بي تي الأخ الوحيد في تلك العائلة الرقمية الجديدة، بل بدأت شركات أخرى تطلق برامجها أو نسخها التجريبية وهي في مرحلة الولادة أو الحبو من مثل شركة غوغل وسواها، والساحة تتسع لكثيرين ولن يحل أخ مكان أخ آخر، أو سيتم الاستغناء عن محركات البحث مثلاً، الأمر له علاقة بتوسيع الإمكانات ومزيد من حضور الذكاء الاصطناعي في حياتنا الذي لا يعرف أحد ما هي الحدود التي سيتوقف عندها أو كيف سيتم استعماله وما هي الأخلاقيات الناظمة ومن سيسنُّها وكيف سيتم تجاوزها ومن يضمن ألا تستعمل استعمالاً ضاراً أو تكون طريقاً لادعاء إمكانات ليست من ذكائك الخاص!!!
يطرح الصديق جي بي تي علينا أسئلة تخص التعاطي الأخلاقي معه، وما هي حدود الممنوع والمسموح، وجهات الصح والخطأ في الإفادة منه
لكن من قال إن ما نقوم به اليوم في مختلف تفاصيل حياتنا هو من ذكائنا الخاص؟ أم أنه من قدرتنا على الإفادة مما حولنا أو مما هو متاح لنا؟ وما هي الحدود للفصل بين الذكاء الخاص والفردي من جهة والذكاء الاصطناعي أو الذكاء العام من جهة أخرى، خاصة أن برامج الذكاء الاصطناعي تتسم بالمرونة والسهولة وسرعة الإنجاز وبساطة الاستعمال وهذا يتبدى في إمكانات الصديق جي بي تي الذي يتسم بالقدرة الاستثنائية على تشغيل كميات كبيرة جداً من المعلومات عبر شبكات برمجية عصبية تحاكي طريقة عمل الدماغ البشري ولعل ذلك أحد الأسباب التي جعلته بفترة قصيرة برنامجاً جماهيرياً يتسم بالتجديد والمرونة وسرعة الاستجابة.
يطرح الصديق جي بي تي علينا أسئلة تخص التعاطي الأخلاقي معه، وما هي حدود الممنوع والمسموح، وجهات الصح والخطأ في الإفادة منه، وكيف يمكن التمييز بين السرقة والإهمال والإفادة منه بصفته مدخلا للكسل المعرفي.
أخيراً: كيف يمكن اليوم الموازنة والحكم على طالبيْن مثلاً حصل كل منهما على درجة عالية في مادة من المواد، أحدهما درس حتى حفيت عيناه، والآخر أفاد من جي بي تي بدقائق؟ هل يكفي الحكم الأخلاقي وحده؟ أم سيفرض علينا الذكاء الاصطناعي وأجياله تغيير طرائق التعليم ومفاهيمه والتركيز على الخبرات والتطبيق العملي والتجربة بدلاً من حفظ المعلومة مثلاً؟ وهل سنستطيع مجاراة ما تفرضه علينا الثورة الرقمية المستمرة من إمكانات جديدة والبحث عن حلول؟ وهل سيبقى الحل الذي اتبعته مدارس عديدة في منع استعمال الموبايل مثلاً هو أفضل الحلول؟ وما نحن صانعون والتحول يحيط بنا كباراً وصغاراً بسرعة شديدة، إذ تتراكم المتغيرات ونتائجها التي تفرض علينا الاندماج معها وتحديد خياراتنا اتجاهها وعلاقتنا بمخرجاتها كل يوم، حيث ضاعت الحدود والمفاهيم والرؤى القارة والثابتة.