ما سرّ توقف هجمات الحوثيين على أهداف داخل الأراضي الإماراتية منذ أكثر من شهر ونصف رغم استمرار الدور الإماراتي الميداني المناوئ للحوثيين في اليمن، واستمرار استهداف الحوثيين لأهداف داخل السعودية؟، وما سرّ غياب البروتوكولات الرسمية في استقبال رأس النظام، بشار الأسد، في أبوظبي تحديداً؟
بقدر ما كان الربط الذي أجراه مراقبون بين توقيت زيارة الأسد، وبين زيارة وزير الخارجية الإماراتي لموسكو، في اليوم السابق، دقيقاً، بقدر ما تفيد محاولة الإجابة على السؤالين أعلاه، في استكمال فهم اللوحة المحيطة بتوقيت زيارة الأسد، ودلالاتها، وتداعياتها المحتملة.
فمنذ الـ 3 من شباط / فبراير الفائت، حينما أعلنت ميليشيا عراقية غير معروفة، مسؤوليتها عن استهداف منشأة على الأراضي الإماراتية بأربع طائرات مسيّرة، لم تشهد الإمارات هجوماً جديداً من جانب جماعة الحوثيين اليمنية، أو من أية قوة أخرى محسوبة على إيران، بالمنطقة. كان الهجوم الأخير المشار إليه، قد سبقه ثلاث هجمات نوعية، أطلقها الحوثيون تجاه الأراضي الإماراتية، سقط في إحداها ثلاثة قتلى، وترافق آخرها مع زيارة الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، للإمارات. لكن، منذ ذلك التاريخ، وحتى ساعة كتابة هذه السطور، لم تتكرر هجمات الحوثيين، ولم تنفذ الجماعة اليمنية تهديداتها باستهداف معرض إكسبو دبي 2020.
توقف استهداف أذرع إيران لأهداف داخل الأراضي الإماراتية، لم يترافق مع تحقيق مطالب الحوثيين بوقف التدخل الإماراتي الميداني ضدهم. بل على العكس، تفيد المعطيات المتوافرة ميدانياً، أن ميليشيا "ألوية العمالقة" اليمنية المدعومة إماراتياً، تواصل عملياتها العسكرية ضد الحوثيين وتحاول التقدم صوب محافظة البيضاء بعد التقدم الميداني الذي حققته في شبوة. أي أن هدف الحوثيين المُعلن من استهداف الإمارات قبل شهر ونصف، لم يتحقق. فلماذا توقف الحوثيون منذ ذلك الحين عن استهداف الإمارات، فيما يواصلون استهداف السعودية؟
يبدو تقديم إجابة حاسمة، متعذراً الآن. لكن، فيما يربط مراقبون بين استقبال الأسد في أبوظبي ودبي، وبين رغبة الإمارات في التقرب من موسكو، تشير التجارب السابقة إلى أن تغييب العامل الإيراني عن العلاقة الإماراتية – الأسدية، ينحو بنا إلى قراءة غير سديدة. يكفي أن نُذكّر القارئ بأن نظام الأسد كان الوحيد بين دول "الهلال الشيعي" (العراق، سوريا، لبنان)، الذي لم يُصدر بيان إدانة لهجمات الحوثيين ضد المنشآت الإماراتية.
يبدو تقديم إجابة حاسمة، متعذراً الآن. لكن، فيما يربط مراقبون بين استقبال الأسد في أبوظبي ودبي، وبين رغبة الإمارات في التقرب من موسكو، تشير التجارب السابقة إلى أن تغييب العامل الإيراني عن العلاقة الإماراتية – الأسدية، ينحو بنا إلى قراءة غير سديدة
وفي محاولتنا للإجابة على التساؤل أعلاه، قد يكون التسريب المتعلق بنيّة إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، رفع الحرس الثوري الإيراني، من قائمة الإرهاب الأمريكية، مقابل المساعدة في تخفيف التصعيد في الإقليم، واحداً من الحيثيات المفيدة. لكن، يبقى التساؤل قائماً: لماذا خفّ التصعيد "الإيراني" ضد الإمارات، لكنه استمر ضد السعودية؟
في الإجابة على التساؤل الأخير، يحضرنا تعثر عقد الجولة الأخيرة من المفاوضات بين إيران والسعودية في العاصمة العراقية بغداد، على خلفية إعدام السعودية عشرات الأشخاص دفعةً واحدةً، جزء كبير منهم، من أبناء الأقلية الشيعية في الشرق السعودي. هذه الخطوة التي عُدت استفزازاً سعودياً مقصوداً لإيران، تكشف عن خيبة أمل الرياض من أي دور إيراني في التخفيف من وطأة الورطة السعودية في اليمن. فيما كان الموقف حيال الإمارات مختلفاً. فالأخيرة كسبت من دورها في جعل دبي، متنفساً للاقتصاد الإيراني، على مدار العقد الفائت، رغم الامتعاض الأمريكي الدائم حيال هذا الملف. وفي دبي ذاتها، وجد رأس المال الموالي للنظام، الهارب من التأزم في المشهد السوري، موطئ قدمٍ، يقدّره النظام لحاكم دبي، دون شك. وهذا ربما أحد أسباب حالة الحميمية التي ظهرت في لقاء حاكم دبي، محمد بن راشد، ورأس النظام، بشار الأسد، في الصورة المتداولة للقاء بينهما. مقارنة بحالة أكثر رسمية، في اللقاء بين ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، وبين الأسد.
النقطة الأخيرة تحديداً، تقودنا إلى السؤال الثاني الذي أوردناه في مقدمتنا. فاستقبال الأسد في أبوظبي، لم يكن لائقاً من الناحية البروتوكولية، وفق الصور المنشورة للقاء، والتي دفعت بمراقبين إلى وصفه بـ "لقاء المرآب"، حيث جرى قرب بوابة "قصر الشاطئ"، وفي أجواء غابت عنها الأعلام، والحيثيات الرسمية التي ترافق اللقاءات بين رؤساء الدول، عادةً. فهل غاب ذلك عن أذهان منظّمي اللقاء في أبوظبي؟ بطبيعة الحال، لا. فطريقة إخراج اللقاء والصور المنشورة عنه، تحمل رسائلها. وتوحي بأن اللقاء كان مجرد "أُعطية" دبلوماسية، محدودة الأهمية، جاءت استرضاءً لروسيا، وأيضاً، استرضاءً لإيران.
لكن الخلاصة الأخيرة، لا تلغي جملة حقائق، الأولى: أن الإمارات تسير وفق منهجية واضحة عنوانها استعادة العلاقات مع النظام، بشكل تدريجي، منذ العام 2018. لكن بطء هذا المسار، فيما يكابد النظام صعوبات اقتصادية جمّة بصورة لا تمنحه رفاهية الوقت لجس النبض بين الطرفين، تُنبئ بأن أبوظبي، تحديداً، تريد مقابلاً لثمن دعمها للأسد. ومن المبكر الجزم بأن زيارة الأسد تعني منح أبوظبي ما تريده.
الحقيقة الثانية الجليّة، هي أن الإمارات التي تتحوط جراء تغير موازين القوى الدولية، وصعود إيران، في طريقها لانتهاج استراتيجيات تبقيها على صلة جيدة بكل الأطراف الفاعلة بالمنطقة. بما في ذلك، إيران نفسها. إذ يجب ألا نفاجأ بتحرك إماراتي نوعي حيالها، قريباً. خاصة إن تُوجت مساعي واشنطن الحثيثة بإعادة إحياء الاتفاق النووي، خلال الأيام القليلة القادمة. لكن ذلك لا يعني دعماً إماراتياً مجانياً لنظام الأسد، بخلاف ما تتحدث عنه وسائل الإعلام الموالية. فشحنة قمح أو نفط إسعافية، لا تمثل ما يأمله الأسد من أبوظبي، بطبيعة الحال.
أما الحقيقة الثالثة، فهي أن الإمارات ليست في وضع يخولها التخلي عن تحالفها المتين مع واشنطن، رغم ما يُقال عن التوتر الذي يشوب علاقات الطرفين، ورغم مظاهر التمرد التي أظهرتها أبوظبي مؤخراً. فمساعي التحوط الإماراتية حيال الانسحاب الأمريكي من المنطقة، وصعود روسيا والصين وإيران، لا تعني التخلي عن الحليف الأمريكي، بل تعني الموازنة بينه وبين قوى أخرى صاعدة. هذا يعني بدوره، أن الإمارات لن تذهب بعيداً في الانفتاح على نظام الأسد، بصورة نوعية، إن كانت واشنطن تمانع ذلك حقاً. ونقصد هنا بالانفتاح النوعي، ليس مجرد لقاء "دبلوماسي" لا يغيّر شيئاً من الواقع المرير لأكبر مشكلة تواجه الأسد، وهي الاقتصاد. بل نقصد بذلك، دوراً إماراتياً حقيقياً في إعادة إعمار البلاد، ودعم اقتصادها، بشكل نوعي ومُستدام، وليس بشكل إسعافي ومؤقت.
دفع الحقائق الثلاثة المفصّلة أعلاه إلى نتيجة نهائية مفادها، محدودية ما يمكن أن ينجم عن زيارة الأسد للإمارات من نتائج على صعيد الاقتصاد السوري
وحتى ساعة كتابة هذه السطور، تدفع الحقائق الثلاثة المفصّلة أعلاه إلى نتيجة نهائية مفادها، محدودية ما يمكن أن ينجم عن زيارة الأسد للإمارات من نتائج على صعيد الاقتصاد السوري، ما لم تُستتبع بتغيرات نوعية في موقف واشنطن حيال النظام السوري. الحيثية الأخيرة بالتحديد ستبقى وقفاً على ثلاثة متغيرات، تطورات الأزمة في أوكرانيا، وتطور العلاقة الأمريكية – الإيرانية (في حال تجديد الاتفاق النووي أو فشل المساعي لذلك)، وأخيراً، تطور العلاقة الإماراتية – الإيرانية.