منذ أن غزت الولايات المتحدة الأميركية أرض العراق في العام 2003، وبعد ترتيبها للعملية السياسية في العام 2004 عبر مجلس الحكم ثم الانتخابات البرلمانية في العام 2005 منذ تلك المراحل والعلاقات العراقية الأميركية غير واضحة المعالم!
مرت العلاقات العراقية الأميركية بمراحل مد وجزر، ويمكن القول إن المرحلة الأهم هي مرحلة ما بعد العام 2003 وذلك كون الولايات المتحدة تتعامل مع غالبية زعماء بغداد بأنها صاحبة (فضل) عليهم لوصولهم للحكم وترتيب الحالة العراقية الحالية، ومع ذلك ولا يمكن للمتابع لهذه العلاقات إلا أن يدخل في دوامة من التساؤلات حولها، فهل هي علاقة دولية ندية بين دولتين تحترم كل منهما الأخرى وفق القانون الدولي؟ أم هي علاقات غير واضحة المعالم بين التابع والمتبوع؟
وهل هي علاقات صلبة قائمة على مصالح مشتركة عميقة، أم هي علاقات مرحلية مبنية على عمل واشنطن لبقاء العراق محوراً مهماً وفاعلاً في توازنات القوى في منطقة الخليج العربي خصوصا والشرق الأوسط عموماً؟
وبعيدا عن الخوض في الردود على هذه التساؤلات أتصور أن أهمية العراق واضحة بالنسبة لواشنطن، وبالذات مع التطور الجديد في تنظيم العلاقات العراقية - الأميركية منذ عهد السابق مصطفى الكاظمي، والتي يبدو أنها مستمرة اليوم خلال مرحلة حكومة محمد شیاع السوداني القريب جدا من الإطار التنسيقي بزعامة نوري المالكي، وكثير من أذرعه تمتلك كيانات مسلحة كبيرة ومتوسطة.
ومع تنوع قوة ومتانة مراحل العلاقات العراقية الأميركية منذ خمسينيات القرن الماضي إلا أنها ومنذ مرحلة الكاظمي دخلت في مرحلة المحور الأميركي، وربما هذا ما تريده واشنطن عبر سفيرتها في العراق ألينا رومانوسكي من السوداني.
ومع ذلك يمكن القول إن عملية اغتيال واشنطن لقاسم سليماني ورفيقه أبو مهدي المهندس بمطار بغداد الدولي بداية العام 2020 قد أحرجت غالبية القوى العراقية السياسية والمالكة للسلاح ولهذا وجدناهم بعد يومين فقط من الحادثة تمكنوا من دفع البرلمان العراقي للتصديق على قرار يلزم حكومة عادل عبد المهدي، حكومة تسيير أعمال، بالعمل على إنهاء وجود أي قوات أجنبية على الأرض العراقية!
ومع هذا القرار لم تتمكن لا حكومة عبد المهدي المؤقتة ولا حكومة الكاظمي التي تلتها من إخراج جندي واحد من مجموع خمسة آلاف مقاتل أميركي موجودين على أرض العراق!
ومع تنوع قوة ومتانة مراحل العلاقات العراقية الأميركية منذ خمسينيات القرن الماضي إلا أنها ومنذ مرحلة الكاظمي دخلت في مرحلة المحور الأميركي
وقد تابعنا كيف أن القيادة الإيرانية، وبالذات بعد هجماتها على بعض القواعد الأميركية داخل العراق، قد نجحت في تحويل العراق إلى ساحة مواجهة مفتوحة مع واشنطن وربما كانت مواجهات "سياسية بالدرجة الأولى، وعسكرية بالدرجة الثانية، وإعلامية بالدرجة الثالثة"!
وفي ظل هذه الأجواء الساخنة يأتي الحديث عن زيارة قريبة للسوداني إلى واشنطن، وهذه الزيارة كشفت عنها مصادر مقربة من رئاسة الوزراء العراقية، وأكدت أن السوداني، المُحْرج من الفصائل المسلحة غير الرسمية والتي تعلن مرارا بأنها ضد وجود القوات الأميركية في العراق وضرورة خروجها من البلاد، سيزور واشنطن قريبا!
والزيارة لم يحدد موعدها بعد، وهناك تنسيق بهذا الأمر مع السفارة الأميركية في بغداد، ويبدو أنه " ليس هناك أي اعتراض أو تحفظ أميركي على زيارة السوداني ولقائه الرئيس الأميركي جو بايدن والمسؤولين في البيت الأبيض".
وفي جميع الظروف أظن أن السوداني مكبل بالاتفاقيات السابقة ومنها الاتفاقية الأمنية واتفاقيات حكومة الكاظمي التي شرعنت لوجود شبه دائم للقوات الأميركية في العراق.
وتحدثت بعض المصادر القريبة من السوداني أنه " ينوي خلال زيارته طرح مبادرة عراقية جديدة لتقريب وجهات النظر ما بين طهران وواشنطن، خصوصاً أن هناك دعما لخطوة كهذه من قبل الجمهورية الإسلامية الإيرانية"!
والحقيقة أتصور أن الموضوع ليس فكرة عراقية للتقارب الأميركي مع إيران وإنما هي مصلحة أميركية على الأقل في ظاهر المواقف وخلال هذه المرحلة، وهذا يعني أن واشنطن قد تستغل قرب حكومة السوداني من إيران وتحاول ترطيب الأجواء الملبدة بالغيوم النووية مع طهران من جهة وتنقية الأجواء المليئة بالرمال القاتلة بين رياض وطهران.
ورغم التعقيدات الميدانية والسياسية والعسكرية ربما، سيتم التفاهم خلال زيارة السوداني المرتقبة على هذه الملفات وبالذات مع الحديث عن خلافات واضحة داخل الإطار المالكي!
وقبل أيام نقل معهد واشنطن بتاريخ 19/1/2023 عن باحثين في المعهد قولهم " إن القوى المشكلة للحكومة العراقية، بدأت تشير إلى تفكير عملي، وتغيير لطريقة تعاطيها مع القوات الأميركية في العراق، وأن عصائب أهل الحق، اتبعت نهجا مغايرا للسابق، وكذلك حزب الله العراق، غير حججه لمسايرة الواقع، من دون التصريح بقبول وجود القوات.
وهنالك من يتحدث، ومنهم النائب عن كتلة تحالف الفتح النيابية محمد البلداوي، بأن السوداني قد يناقش مع البيت الأبيض قضية رفع العقوبات عن شخصيات منخرطة في العملية السياسية، ورفع القيود على تعاملات العراق التجارية والوجود العسكري الأميركي لتنفيذ قرار البرلمان السابق، وأيضا مطالبة العراق بعدم إدخاله في الصراعات الإقليمية لكونه ليس طرفا فيها وكذلك رفع القيود عن أرصدته الموجودة في الولايات المتحدة الأميركية"!
ومع ذلك، وخلال تصريحات لوسائل إعلام غربية في أثناء زيارته إلى ألمانيا منتصف كانون الثاني 2023، وصف السوداني القوات الأميركية بـ"الصديقة"، وأكد حاجة العراق لوجودها في مكافحة "الإرهاب"، واستمرار التعاون مع واشنطن على مختلف الأصعدة.
ويبدو أن دفاع السوداني عن ضرورة بقاء القوات الأميركية في العراق ربما يمكن اعتباره بعض ثمار لقاءاته العديدة مع السفيرة الأميركية ببغداد.
ومع جميع ما تقدم فإن الحقيقة التي لا يمكن الخلاف عليها هي أن واشنطن تعمل في كل هذه السيناريوهات على ضمان مصالحها في العراق والمنطقة، وبقاء حالة التعاون الاقتصادي والأمني واستمرار وجود قواتها في العديد من القواعد في عموم المدن العراقية، وهذا ما أكدته واشنطن في أكثر من مناسبة وآخرها يوم 19/11/2022 إذ أكد المتحدث باسم البنتاغون ديفيد هيرندون، أن" الولايات المتحدة الأميركية ملتزمة ببقاء القوات الأميركية في العراق لدعم القوات العراقية، وأن الولايات المتحدة ملتزمة بالحفاظ على القوات الأميركية في البلاد لدعم قوات الأمن العراقية في قتالها المستمر لدحر تنظيم داعش".
ومع هذه الملابسات الواقعية السياسية والعسكرية، الداخلية والخارجية، لا يمكن التكهن بمجريات المحادثات الأميركية العراقية المرتقبة، وكذلك لا يمكن الجزم بنوع وشكل الرسائل المتبادلة التي يمكن أن تنقل من كلا الطرفين للآخر، أو النتائج المتوقعة من هذه الزيارة، ولكنها في كل الأحوال قد لا تخرج عن مسار حكومة الكاظمي السابقة التي عملت على ترتيب الأوراق ما بين إيران وأميركا من جهة، وما بين الرياض وطهران من جهة أخرى!
وأخيرا هل سينجح السوداني في هذه المهمة خلال زيارته المرتقبة لواشنطن ويتخلص من قيود القوى المسلحة المرتبطة بالإطار التنسيقي، أم سيجد نفسه في دوامة لا يمكنه الخروج منها، وبالمحصلة قد يضرب إما من الإطار المسيطر على البرلمان العراقي أو من واشنطن وبالنتيجة قد يجد نفسه خارج الملعب السياسي؟
كل التوقعات ممكنة الحصول والأيام هي الفيصل في تحقيق الأقرب للمصلحة الأميركية بعيدا عن المصلحة العراقية!