أذكرُ جيداً أنّني أمضيتُ الجزء الأكبر من طفولتي على أبواب الأفران منتظراً حصولي على القليلِ من الخُبز. وفي ذاكَ الوقت كان عددُ الأفران قليلاً في مدينتي طرطوس التي كانت تمتاز بكثافة سكانية قليلة أيضاً، لكن لحظة انتظاري بين حشد النّاس غير المنظّم وأنا الطّفل النّحيل الذي ينتعلُ شحاتة بلاستيكية تخرجُ نصفُ أصابِعَهُ من مُقدمتهِ، كنتُ أشعرُ أنَّ كل جياع العالم احتشدَتْ أمامَ هذا الفرن لتحصلَ على طعام الفقراء، الخُبز، حيثُ كنتُ كلّما اقتربتُ من البائع دَفعني أحدهم إلى الخلف إلى أنْ أضعتُ إحدى فردتي شحاطتي الجديدة، وعدْتُ إلى المنزل خالي الوفاض من الخُبز وحافي إحدى القدمين، مما دفعَ بأبي لينهال علي بموجتين من الصّفعات المتتالية، أولُها لعدم إحضاري الخُبز، وثانيهما وكانت أعنفُها لفقداني شحاطتي التي تكفّل بحرق الأخرى لنتدفأ، لأصبح بذلك حافي القدمين.
ولعنة الخُبز لمْ تتوقف عند ذلك، إذ كنتُ أتلّقى التّعنيف الجسدي والنّفسي من أساتذتي في المدرسة، لسببين الأول تأخري المُتكرر عن الصّفِ صباحاً وذلك بسبب وقوفي للحصول على الخُبز، والثُاني عدم كتابتي لوظائفي لأنّني كنتُ أنشغلُ في عدِّ صفعاتِ أبي وعدد الخيزرانات على يدي من أستاذي أو معلمتي، واستّمرَّ هذا المشهد طوال دراستي الابتدائية والإعدادية، لتنتقل مهمة إحضار الخُبز إلى أخي الأصغر الذي كانَ أوفرَ حظاً منّي، حيث تزامنَ انتقال هذه المهمة العظيمة لهُ مع ازدياد عدد الأفران الحكومية وتحولها من أفران تعمل على التمزق والحطب إلى أفران نصف آلية وذلك بداية الثّمانينات، إضافة إلى ظهور تنظيم للدور بين النّاس لتسلّمِ الخُبز من كواتٍ ثلاث التي كان أولُها خاص بالعسكريين وثانيهما خاص بالنّساء وثالثهما خاص بالرّجال المدنيين.
وأذكر أنهم كانوا يضعون داخل الربطة ورقة زرقاء كتب عليها أسماء المرشحين لمجلس المدينة. وطبعا أذكر وقتها كم تمنيتُ لو كانت هناك كوة خاصة بالأطفال الذين ينتعلون شحاطات بلاستيكية كي لا يفقدوا أحذيتهم فينالون العقاب مرةً من ذويهم، ومرةً من مدرسيهم.
لمْ يتورّم خداهُ، ولم يتأخرْ عن المدرسة يوماً، ولم يختبرْ أبداً ألم عصاة الخيزران على كفيه، فتفوّقَ في دراسته ليحصل بالنتيجة على شهادة جامعية محترمة
وهذه الأمنية لمْ تطلْ أخي الأصغرَ سِناً، فهو لم يكنْ بحاجة لأمنياتي أصلاً، إذْ كان يدفع أبي ضعفي ثمن ربطة الخبز كي لا يضطر أخي للوقوف في الطابور المُنظّم أصلاً، وكان ينتعل حذاء رياضيا صينيا مصنوعا من القماش الأبيض برباطٍ أبيض اشتراهُ والدي لهُ من لبنان أثناء عملِهِ هناك في البناء، لذلك لمْ يتورّم خداهُ، ولم يتأخرْ عن المدرسة يوماً، ولم يختبرْ أبداً ألم عصاة الخيزران على كفيه، فتفوّقَ في دراسته ليحصل بالنتيجة على شهادة جامعية محترمة، في الوقت الذي انتعلتُ فيهِ حذاء مصنوعا من البلاستيك المطبوخ المعروف باللغة العامية بالغوا، والذي كان يُصدر أثناء سيري أصواتاً أشبه لأصوات الغازات التي يُصدرُها الإنسان من مؤخرته، مما يجعلني أخجل وأخجل فألوذُ بالفرارِ من المدرسة بعيداً عن قهقهتا زملائي، لأجلس قُبالةَ الفرن قائلاً لنفسي:
لو كنت ألبسُ هذا الحذاء عندما كنتُ طفلاً بدلا من شحاطة البلاستيك اللعينة، لاعتقدَ النّاس أنَّ صوت الحذاء هو صوت غازات تخرج من مؤخرتي، وكانوا لاذوا بالفرار بعيداً عني وبالتالي كنتُ حققتُ الانتصار الأعظم بحصولي على ربطة الخبز عندها لم يتورّم خداي ولا يداي ولكنتُ ربما تفوقتُ في مدرستي.
لم أُتابع دراستي بعد الثّانوية، بل ذهبتُ لأداء واجب الخدمة العسكرية الإجبارية التي كانت في دمشق، وحينذاك بقيت لعنة الخبز ملازمةً لي بالرَّغم من كوني أعزبا وعسكريا ولن أحتاج لأكثر من ربطة خبز كل أربعة أيام، ولكن أثناء وقوفي في الطّابور الخاص بكوة العسكريين غالباً ما كان يُدفعني للخلف أحد العساكر الذي يحمل مسدساً على خصره. أمر الخباز أنْ يُعطيه عشر ربطات خبز للمعلم وأحياناً أكثر، حيث كان يترك الخباز الجميع وينسى الدّور ليُلبي طلبات المعلمين من الضّباط على كثرتهم، ثمَّ يأتي عسكري من نوع آخر ليقول للخباز الله يخليك.. أعطيني ربطة خبز ما بدي أتأخر على دوامي وهنا انتبهت أنّني عسكري ولكن كان انتباهي لشيء آخر أهم أنني ذاتَ يوم، كنت أنتعل حذائي الغموا، وهنا أطلقتُ له العنان بإطلاق الغازات من مؤخرته وبدأَ الجميع يهرب من مدنيين وعسكريين، ولمْ يبقَ سواي وسط دهشة وذهول الخباز الذي قالَ لي بخوف وقرف: &
كم ربطة خبز بدك؟ فأجبتُهُ ; أريدُ شحاطتي البلاستيك لأنَّ معدتي تورّمت من تناول الخبز الحاف، نظرَ الخباز لي قائلاً: اللّه يثبّت علينا العقل والدّين، ابتعد من هنا. وهنا بالفعل ابتعدتُ مُسرعاً خائفاً من نفسي، ثمَّ اصطدمتُ بعربة يجرّها رجل عجوز وأغلب الظّن هي التي تجرّه، يبيع عليها كعكاً طرياً مع السّماق، فاشتريتُ منهُ سماقاً من دون كعك قائلاً له: كلوا كاتو عوض الوقوف في طوابير الخبز عند الأفران، لتكون إجابته: الله يثبّت علينا العقل والدّين، ابتعد من هنا.
وبعد انتهاء مدة خدمتي العسكرية الإلزامية، وعودتي للحياة المدنية تزوّجتُ ومع إنجاب الأطفال زاد عدد ربطات الخبز عن ربطة العسكري الحزين، والشيء الوحيد الذي بقيَ ثابتا هو وقوفي في الطّوابير للحصول على الخبز، وهنا أحسست أنَّ الزّمن ثابت لا يتغير، لكنّي الآن ما عدْتُ الطفل صاحب شحاطة البلاستيك ولا المراهق صاحب حذاء الغوما بأصواته ذات الرّائحة الوهمية، وأنّني ما عدْتُ أخاف من صفعات والدي ولا من خيزرانة أساتذتي التي عندما أصبحتُ عسكريا تحوّلت إلى مُسدس يُحمل على الخصر للتخويف، لكن رغم ذلك صار الهرب جزء من شخصيتي، فهربتُ في تلك اللحظة بعيداً عن طابور الخبز وأنا أعلم عدم قدرتي على شراء الخبز السّياحي أو الكرواسون لأطفالي، و أثناء هروبي شدّني صوت طفل يبيع الكعك والسّماق، فاشتريتُ منهُ سماقاً من دون كعك راكضاً بحذائي الأوروبي الصّنع والذي اشتريتُه من سوق الأحذية المُستعملة المعروفة باسم البالة، وعندما وصلت للمنزل أعطيت زوجتي السّماق التي بدورها أضافته للحساء التي تُعدّه قائلةً: أين الخبز؟ هنا حرّكت حذائي الأوروبي المُستعمَل علّه يُطلق الغازات كحذاء الغوما فأهرب خجلاً وتنسيها الرّائحة الوهمية السؤال عن الخبزِ، لكنّه لمْ يُسعفني، فأجبتُها الحساء لا يحتاج للغازات، أقصد لا يحتاج خبز وانحلّت أزمة طوابير الخبز، عندما بدأ بيع الخبز عبر منافذ خاصة عن طريق محال السّمانة، لكن هذه النّعمة لم تدم طويلاً، حيث عادت أزمة طوابير الخبز بعد عام 2011 وذلك بعد الحراك الشّعبي، وكانت تزداد أزمة الطّوابير مع اشتداد الحرب وما رافقها من تخريب للبنى التّحتية وحرق محاصيل القمح والاستيلاء على حقول النّفط، لتتحول حياتنا إلى أزمة طوابير، طابور للحصول على الخبز، طابور للحصول على جرة غاز، طابور الانتظار على حواجز التّفتيش على مداخل المدن ومخارجها، طابور الحصول على سلة غذائية، وغيرها من الطّوابير التي لا تنتهي.
وذات الطابور وكنتُ على بعد شخص واحد من كوة الحصول على الخبز وبالتالي على مقربة من تحقيق الانتصار العظيم بالحصول على الخبز لعائلتي، جاء طفل صغير بثياب بالية متسخة ينتعل حذاء بلاستيكيا أخضر تخرج نصف أصابع قدميه من مقدمته ولشدة البرد راح يُطلق غازات حقيقية من مؤخرته، هنا بدأ النّاس يركلونه ويسبونه ليبتعد كي لا يموت اختناقاً.
تسلّمت الخبز من الكوة ثمَّ منحتُها لذلك الطّفل، بعدما طلبتُ منهُ أنْ يُعيرني شحاطته لدقائق، فوضعتُها على خدي اللذين لا يزالان متورمان بفعل صفعات الزّمن
أمّا أنا اقتربتُ وعانقتهُ محاولاً أن أشتم رائحة طفولتي فيه بدايةً من شحاطة البلاستيك الضّائعة إلى حذاء الغوما ذو رائحة الغازات الوهمية، فقالَ وهو يبكي:
عمو بتعطيني دورك ع الخبز، واللّه تعبت من الضّرب وتضييع شحاطتي فما كان مني إلّا أن تسلّمت الخبز من الكوة ثمَّ منحتُها لذلك الطّفل، بعدما طلبتُ منهُ أنْ يُعيرني شحاطته لدقائق، فوضعتُها على خدي اللذين لا يزالان متورمان بفعل صفعات الزّمن التي بدأت منذُ خمسين عاماً بصفعات والدي، وهنا راحَ النّاس المنتظرون في الطّابور يصيحون: اللّه يثبّت علينا العقل والدّين، ابتعد من هنا.
عدْتُ للمنزل من دون خبز وركضْتُ باتجاه المرآة، ورحتُ أتمعّن تجاعيد وجهي السّتيني من تورّمه، والذي بدا لي في تلك اللحظة كرغيفِ خُبزٍ مُقمّر لكن لا يصلح للحياة من شدة الصّفعات والهروب.