يحدّثني صديقي الصحفي أنه بدافع فضول مهنته، قد جرب خوض رحلة تهريب قبل أسبوع، كان قد تم الاتفاق مع المهرب أن الوجهة حدود صربيا من خلال صوفيا، وقد تم "تشييك" المبلغ اللازم لدى مكتب مختص في أكسراي وهو 3500 يورو فيما يدعى بالخط المتوسط الطول، الذي عادة ما يستغرق نحو شهر، وكان قد سمع من أشخاص آخرين أنه يجب أن لا يصدق كل ما يقوله المهربون، حول ثلاثة عناصر: الوقت، الكلفة، المخاطر، لأن الراغب باللجوء هو بضاعة نفسه، فهو المنتِج والمنتَج والمستهلك، أما المهرب فهو مسوّق غير خبير، بضاعته شبكة علاقات مع سائقي سيارات، وقليل من الخبرة على الطريق، ومتى ما تم ّ الإمساك بضحايا التهريب فإنه يخسر الصفقة وضربة الحظ فحسب، لأن تجارته دون رأس مال.
هناك ستة عوامل تتحكم بعملية التهريب هي: إرادة الراغب باللجوء، والمهرِّب وشبكة علاقاته، والسلطات الحدودية والمرافق (الريبر)، والنقود، والأهم ضربة الحظ!
يخبرني صديقي الذي يحمل الجنسية الأوروبية، أنه قام بهذه المغامرة كجزء من مشروع بحثي يعدّه لأحد مراكز الأبحاث. لم يطلب المركز منه أن يقوم هو بالرحلة، ولا يعلم موقفهم من مغامرته تلك. تتطلب العينة البحثية اللقاء مع راغبين باللجوء، حديثي التجربة، قبل بداية الرحلة وبعد نهايتها، ووصف الطريق الذي سلكوه وصعوباته ومقدار إمكانية تعرض حياتهم للخطر، وتعامل السلطات معهم خاصة قوات الكوماندوس الأوروبية. عاملٌ آخر حثه على المغامرة، هو جذوره السورية، فقد رغب أن يجرب معاناة جزء من مواطنيه من ضمن فكرة، تعد الإحساس بحالة الضحايا لا يتحقق إلا بالمرور بظروفهم ذاتها، كان يمكن له، مقابل مبلغ زهيد من المال، أن يحصل على مقابلات مع عدد من الراغبين باللجوء في إسطنبول ثم يلتقيهم بعد نحو 3 أشهر في الدول الأوروبية لكنه فضَّل خوض التجربة.
يخبرني صديقي أن هناك ستة عوامل تتحكم بعملية التهريب هي: إرادة الراغب باللجوء، والمهرِّب وشبكة علاقاته، والسلطات الحدودية والمرافق (الريبر)، والنقود، والأهم ضربة الحظ!
يصف الاتفاق بين المهرب والراغب بالوصول إلى أوروبا بأنه عقد شفوي عبر الواتس أب أو المقابلة الشفوية، ضامنُه النقود التي يتم إيداعها بمكاتب في أكسراي، يتحكم به عدد من السماسرة والمهربين، وما تسميتهم بالمهربين إلا تسمية نظرية، لأنهم ميسرو طريق، أو مسؤولون عن مرحلة ما من الطريق، ليس لديهم تقاليد عمل ثابتة، وليسوا على علاقة جيدة مع الصدق أو احترام الاتفاقات. وهذا يعني من جملة ما يعني أنهم غير محترفين، لأن المهربين في مجالات الحياة الأخرى، عادة ما يكونون مهنيين، ما يجعل كلام مهربي البشر أولئك رائجاً هو كثرة الراغبين ببضاعة "تجاوز الجغرافيا الصعبة" وحرس الحدود.
بدأت أول خيوط التشكيك كما يقول صديقي، من وعدهم بأن الانطلاق سيكون من أكسراي، في ساعة محددة وقد تم تأخير الانطلاق أكثر من 24 ساعة بهدف جمع أكبر عدد من الضحايا الراغبين بتجاوز شرط الجغرافيا، وقد تم حشرنا في "ميكرو" يتسع لأربعة عشر شخصاً فيما كان عددنا أكثر من عشرين شخصاً، نظرنا إلى بعضنا، متسائلين: هل نعترض؟
وخشية أن يكون الثمن هو التخلي عن أحد منا، التزمنا الصمت، وتحت هذا الشعور بالخوف من الخذلان والتخلي، وأنهم سيتركوننا في مرحلة ما من الطريق يبدأ هذا الشعور من الخوف بالتنامي؛ ليصل كل راغب من هؤلاء، آخر الرحلة، بعد أكثر من شهر (قد تصل إلى ستة أشهر) إلى شخصية مكسورة من جهة، وشخصية حاقدة على الظلم، الذي وقع عليها من جهة أخرى، في الطريق سيكتشفون أنه لا يوجد مهرب بمعنى ما، بل يوجد شخص لديه علاقات مع سائقين ينقلون الضحايا في مرحلة ما من الطريق، أو يعتمد على "ريبر" فهو أحد المتهورين المفلسين معنا، ولا يوجد لديه أي خبرة بالطريق خبرته الوحيدة هي قوة القلب حد التهور ورباطة الجأش وكونه مفلساً من المال، ويريد الوصول إلى النعيم الأوروبي، وهو شخص ليس لديه خط رجعة، حيث دربته ظروف الحياة على أن الخطوات لا تكون إلى الخلف بل إلى الأمام دوماً مهما كانت المخاطر. ويتولى التنسيق مع المهرب في كل مرحلة ليضمن وصول النقود ووصوله، حيث إنَّ ربحه من تلك المغامرة الوصول إلى أوروبا دون أن يدفع نقوداً في لعبة تجاوز الجغرافيا.
يتابع صديقي: انتظرنا في منطقة أدرنة بلوغ المغيب، وبعد الوصول قام الريبر (حادي الأثر) بقص الشريط من الأسفل بمقدار نصف متر عبر مقص خاص، وعبرنا حبواً، وما إن مشينا نحو مئة متر حتى كانت الكاميرات بانتظارنا تدور نحونا، كأنها تعرفنا جيداً، وحين سمعنا صوت الإنذار امتقعت وجوهنا إذ أدركنا أننا صرنا ممن يدعون بعالم التهريب من فريق (المحاولة الفاشلة) وهذا يعني أنك رسبتَ في الامتحان بسبب هذه الكاميرا أو سوء تقدير "الريبر" حيث اختار هذه النقطة للعبور، ومعلوماته عن الطريق ليست أفضل من معلوماتنا. في كل الأحوال غدونا منذ هذه اللحظة مرجعاً فاشلاً عند الراغبين الجدد باللجوء، الذين يحاولون أن يتعلموا من درس فشل محاولتنا.
من حسن حظنا أن من جاء بسيارته نحونا شرطي بلغاري واحد، ومعه كلب مدرَّب، أطلقه علينا فتكومنا فوق بعضنا نحن العشرين، إلا طفل عمره نحو عشر سنوات أرسلته عائلته ليقوم بلمّ شملها بعد الوصول، لم نعد نراه، وكان يتناوشنا شعوران: هل نخبر عنه ليبحثوا عنه ويعيدوه، أم نتركه لعله يعبر، وقد يضيع في تلك الغابة أو يتعرض لخطر ما؟
كان الكلب المدرَّب جيداً يدور حولنا، كأنه يهمّ أن يلتهمنا، فتتراصّ الكتلة البشرية على بعضها استجابة لمشاعر الهلع، وأمام ما بقي بنا من رجولة نهشتها ظروف الحياة، لا نريد أن نبكي فنصبح أضحوكة لرفاقنا لاحقاً.
كان مطلب الشرطي واضحاً أن نسلمه كل شيء: الموبايلات والأموال والأغراض، وبسرعة جمع الشرطي كل شيء في كيس خيش، بعد أن فككنا رموز موبايلاتنا التي ودعناها وداعاً أخيراً، بحسرة وقد امتلأت ذاكرتها بأصوات دعاء الأمهات وتشجيع الآباء ورسائل غزل لحبيبات يحلمن بوصولنا إلى أوروبا، لعلنا نتمّ رحلة المشاعر، ونتزوج منهن لاحقاً فيلتمّ الشمل.
من تجارب السابقين وأحاديثهم، كنا ننظر إلى الشرطي بخوف ورجاء، خشية أن يلتئم علينا، فيعرينا من لباسنا كلياً، أما حلم أن يتركنا في حال سبيلنا نكمل مغامرتنا، عبر عقد معنا صفقة غير معلنة، له الأغراض ولنا الجغرافيا، فهو أبعد من أحلامنا.
حين تأكد الشرطي أننا سوريون من الوثائق التي نحملها معنا، بدا أن مسحة من التعاطف ظهرت على وجهه، وقال: من حسن حظكم أنكم لستم أفغاناً، لكنا جعلنا الكلاب تنهش لباسكم
قال الشرطي في رسالة تودّد: إنه يتمنى مساعدتنا لكن الكوماندوس الأوروبي يراقبه.
لم يحصل ذلك الشرطي على أموالنا وموبايلاتنا عن رضا منا، أو نوع من الرشوة، بل حصل عليها بصفته المسؤول عن عدم تجاوز الحدود ونحن المخالفون، بل إن السلاح الذي يحمله والكلب الذي يرافقه هو ما جعلنا نسلمه ما نحمله معنا بسرعة. لا يشبه هذا الرجل الشرطة التركية، التي تحب عقد الصفقات معنا نحن العابرين في كل لحظة، حين يتكئ كل منا على الخطاب الديني: في سبيل الله! وإن كان هذا السبيل يتمّ تعبيده بنقودنا وصمتهم.
حين تأكد الشرطي أننا سوريون من الوثائق التي نحملها معنا، بدا أن مسحة من التعاطف ظهرت على وجهه، وقال: من حسن حظكم أنكم لستم أفغاناً، لكنا جعلنا الكلاب تنهش لباسكم.
وقد سمعنا من زملاء راغبين بعبور الحدود قبل أيام، أن الأفغاني الذي يريد تجاوز شرط الجغرافيا في هذه المرحلة يحمل وزر سمعة دفعة من الأفغانيين، الذين اغتصبوا عسكرية من حرس الحدود وقتلوها وعلقوها على شجرة مع كلبها، قبل أسابيع، كي تستطيع تلك الدفعة الهرب وإكمال طريقها نحو أوروبا.
دفعَنا تعاطفه معنا كسوريين، لمحاولة إظهار مزيد من الاستجابة لتعليماته، على أمل ألا نتعرض للضرب أو السجن أو إطلاق الكلاب علينا، أو أنواع إساءة أخرى مما يتعرض له الراغبون بتجاوز لعنة الجغرافيا مما امتلأت به الذاكرة السورية الجمعية.
بعد أن سلمَنا الشرطي إلى الكوماندوس الأوروبي، وجدنا رفيقنا الطفل الذي شرد عن قافلتنا عندهم. كتبوا معلوماتنا وصوّرونا وبصّمونا، ثم حملونا بسيارة إلى بوابة مشتركة، وأطلقوا سراحنا برفقة علبة ماء لكل منا، فيما كانت عيوننا تتبادل فرحاً اسمه "فرح عدم التعرض للتعذيب".
حين يسمع أهلنا في سوريا رسائل الواتس أب القادمة من إسطنبول تعلمهم عن "فشل محاولتنا" سيعيشون يوماً كئيباً آخر أضفناه إلى حياتهم، عن غير قصد، وسيضطرون لطرق أبواب عدة بيوت كي يؤمنوا مئتي دولار في إطار محاولة جديدة لتجاوز شرط الجغرافيا.
يقول صديقي الباحث الصحفي، أول وصولي إلى أكسراي، ذهبت إلى مكتب "التشييك" فسحبت نقودي، بعد أن عشت وجهاً آخر من وجوه الانكسار السوري.