لا يُعرَف بالضبط ما هي حدود وطبيعة المنطقة الحساسة التي دهس عليها وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي، ظنّاً منه أن تلك الشهية التي أبدتها دول عربية للتطبيع مع الأسد، من جهة، وللتفاوض مع الإيرانيين من جهة أخرى، إنما تعبّر عن قابلية تلك الدول لمزيد من الغرق في الوحل الإيراني، فزاد من جرعة النقد لمواقف تلك الدول وقامت الدنيا منذ تلك اللحظة ولم تقعد بعد.
لكن العبرة من ذلك المشهد المتصاعد ما بين لبنان وكل من السعودية والإمارات والبحرين والكويت وقطر وعمان، وهم عماد مجلس التعاون لدول الخليج العربي، لا يبدو أنها تقوم على موقف قرداحي ومن ثم وزير الخارجية اللبناني عبد الله بوحبيب الذي سرّبت له صحيفة عكاظ السعودية تصريحات صوتية زادت الطين بلة، وبدا قرداحي أمامه من الحمائم، في حين ظهر بوحبيب وكأنه رأس حربة يعكس تفكيراً سياسياً سائداً في لبنان اليوم.
فالمشكلة ليست في الكبتاجون المخدّر، وتصنيعه وتهريبه على يد شبكات حزب الله إلى السعودية، حسب بو حبيب، إنما في وجود ضحايا يشكلون سوقاً له، والمشكلة ليست في وجود مئة ألف مقاتل يهيمنون على لبنان ويمثلون ميليشيا حزب الله، إنما في عدم وجود مئة ألف جندي من جنود المارينز الأميركيين لردعهم، وحتى يحصل ذلك يتعهّد بو حبيب بتقديم الشمبانيا للمحتفلين بالنصر على حزب الله.
مثل هذا المنطق، يكشف خللاً ليس في ما يدور في لبنان الذي بات بحكم المختطف بشكل نهائي داخل الثقب الأسود الإيراني، إنما أيضاً في كيفية التعاطي العربي مع هكذا حالة.
وحين تقدم دول الخليج على تطبيع مع شخصية باتت تمثهل أحد أبرز زعماء ميليشيات المحور الإيراني، أي الأسد، فإن هذا سيُترجم على الفور لدى كثيرين أنه رضوخ تام للأمر الواقع وسيطرة نظام الولي الفقيه على المشرق العربي برمّته. لا تفسير آخر لذلك، وما الذي فعله قرداحي أكثر فداحة مما فعله الأسد؟ أو بو حبيب أو حتى الحكومة اللبنانية، وماذا سيعني التخلي عن لبنان في مثل هذه الظروف سوى تقديم هدية جديدة لإيران؟
مشكلة التخطيط السياسي العربي، بوضعه الراهن، أنه يستند إلى العشوائية في اتخاذ القرار، حيث يبدو سلسلة من ردود الفعل، أكثر منه مساراً مدروساً وممنهجاً له أهداف قريبة المدى وأخرى بعيدة مرجوة. ومثل هذا التخطيط في الواقع تظهر جدواه استهلاكية سريعة النفاد، لا استراتيجية مؤثرة. سرعان ما تنقلب لصالح الخصم الذي ينسج سجادته الفارسية بصبر طويل وبعناد رجيم.
في السياسة لا يمكنك أن تقطع الشريان، وإلا بدا الأمر انتحاراً طقسياً مشتركاً، وحين تودّ إرسال إشارة إلى فعل كهذا، وصل حدوداً لم يعد يجدي معها التأني، فيجب عليك أن تترك الباب موارباً
في السياسة لا يمكنك أن تقطع الشريان، وإلا بدا الأمر انتحاراً طقسياً مشتركاً، وحين تودّ إرسال إشارة إلى فعل كهذا، وصل حدوداً لم يعد يجدي معها التأني، فيجب عليك أن تترك الباب موارباً. وهو ما لا يحدث في المشهد العربي. على الأقل منذ بداية الربيع العربي والثورات التي صدمت الأنظمة والنخب والشعوب معاً.
سيكون حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله الأكثر سعادة بالقطع، بحكم العقلية الثأرية التي يقدم منها، وسيستحق مكافأة من مرجعه الأعلى في قم وطهران، ولكن في الوقت ذاته ما الذي يمكن أن تفعله الدول العربية وهي ترى أن لبنان بات منصة لتهديدها واستهداف أمنها عسكرياً، من الجنوب حيث الحوثي، واجتماعياً من الشمال حيث تهريب المخدرات. وحيث الخاصرة الضعيفة التي قدّمها مؤخراً مشروع ملك الأردن عبد الله الثاني المنفتح على الأسد وإيران معاً.
هناك كثير. ولعل أبرز ما تجدر الإشارة إليه هو الالتفات إلى ضحايا ذلك المحور وعدم إهمالهم وتجاهل دورهم في الإقليم، فحزب محلي مثل حزب الله يفاخر بدوره الإقليمي، في حين تريد الدول العربية لقوى الثورة والمعارضة السورية بقضها وقضيضها أن تكون مجرّد تفصيل محلي سوري، بل وتمنع كل أشكال الدعم عن تلك القوى، فتبدو تلك الدول كمن يطلق النار على قدميه بدلاً من التسديد على العدو.
هي مغامرة في توقيت سيئ، فالمحور الإيراني يصعّد اليوم في سوريا، كما في لبنان واليمن، وأحدث ما يريد إرساله من رسائل استهداف رئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمي بمحاولة اغتيال، وكل ذلك قبل العودة إلى المفاوضات حول الملف النووي الإيراني. بينما الإسرائيلي يطير حول العالم للتعبير عن قلقه الشديد من اقتراب اللحظة النووية الإيرانية ويبرم الاتفاقات غير المجدية مع الروس وغيرهم، والأميركي الديمقراطي يعتقد أن النهج الدبلوماسي الناعم هو السبيل الوحيد بعد درس ترامب، وهكذا تضع إيران الجميع في ورطة.
وبقصد أو من دون قصد، بتصريحاته وتشبّثه بمنصبه الذي يعتقد أن له وزناً يُذكر عند السعوديين ولذا يطالب بمقابل ”محرز“ لاستقالته، رسم قرداحي خطاً أحمر بأيدٍ عربية هذه المرة، سيكون على الدول العربية التي أقبلت على الأسد أن تراجع نفسها كثيراً فيه، فالآلية قد انطلقت ولن تتوقف، وقطع المشيمة مع لبنان لن يسهل الرجوع عنه بلا ثمن، والثمن لن يكون في لبنان وحده. أعني الثمن الذي يجب أن تدفع الدول العربية لا ذاك الذي لن تقبضه. بانتظار أن تدرك أهمية القوى العربية المحيطة بها والمؤيدة لمواقفها والتي تعتبر ركائز أساسية لا هامشية في صناعة المستقبل وصيانة الوجود في حرب وجود حقيقية لا حرباً تدور في لعبة إلكترونية.