دروس زيلنسكي للمعارضة السورية

2022.04.17 | 06:03 دمشق

66607d03-0d1c-4717-a2dc-dbfa4bd305fa.jpg
+A
حجم الخط
-A

يرى بعض المراقبين أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي مجرّد ممثل كوميدي عابث تورّط في السياسة وارتكب خطأً فادحاً عندما قبل بتحويل بلاده إلى حلبة صراع لتصفية الحسابات بين الولايات المتحدة وروسيا. بعيداً عن هذه التهمة، وبغضّ النظر عن صوابيتها من خطئها، فإن الأداء العملي للرجل على الأرض يستحق الإعجاب.

منذ بداية العدوان الروسي على بلاده أظهرَ الرئيس الأوكراني زيلنسكي شجاعةً عسكرية، وتفوقاً سياسياً، وروحاً وطنية عالية ما حوّل اجتياح أوكرانيا إلى كابوس بالنسبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي كان يطمح بتحقيق نصرٍ سريعٍ وحاسم، بحيث يهرب الرئيس وتسقط الحكومة وتستسلم أوكرانيا للقوات الغازية.

إن ما يحصل في أوكرانيا هو حربٌ بين دولتين قويتين؛ بل بين محورين عالميين غربي (أميركي-أوروبي) وشرقي (روسي-صيني). من هذا الباب لا تشبه الحرب الروسية الأوكرانية ما يحصل في سوريا من ثورة داخلية ضد نظام قمعي، لكنّ أداء الرئيس زيلنسكي الناجح يستحقّ الالتفات إليه من طرف قيادات المعارضة السورية ليروا كيف نجح هذا الرجل فيما فشلوا هم فيه. فقد تمتع بكاريزما قياديّة فائقة، وحصل على احترام دولي كبير، وحظي بتعاطف الشعوب والحكومات مع القضية الأوكرانية.

أعتقد شخصياً أن هناك ثلاثة دروس عامّة بوسع المعارضة السورية الاستفادة منها في أداء زيلنسكي، فيما يلي عرض مختصر لكلٍّ منها:

أولاً: الأداء العسكري

منذ الساعات الأولى للحرب ظهر زيلنسكي بملابس بسيطة ذات لون كاكي - وهو اللون الذي تُصبغ به ملابس الجنود - في شوارع العاصمة كييف معلناً أنه لن يغادر البلاد وأنه سيقود عملية الدفاع بنفسه.

"نحن باقون هنا، ولن نضع السلاح أبداً. سوف ندافع عن بلادنا،" هكذا طمأن زيلنسكي الأوكرانيين قي مقطع فيديو بثّه عبر الإنترنت. وبالفعل تشبّث الرجل بالأرض، ورفض عرضاً أميركياً بالإخلاء، وقرر أن يعيش يوميات الحرب مع الجنود والمواطنين العاديين فرفع كثيراً من معنويّاتهم مع أنه كان يعرّض نفسه لخطر الموت والاغتيال في أية لحظة.

 لم ينتقل زيلنسكي لإدارة المعركة من أحد أحياء برلين الراقية ولا من فندق فخم من فنادق إسطنبول أو وارسو، بل ردّ على العرض الأميركي بالقول:

 "أريد ذخيرة وليس توصيلة (إلى خارج البلاد)".

وتحول زيلنسكي بين يومٍ وليلة من رئيس دولة إلى قائد للمقاومة. ورغم تدفق السلاح عليه من كل حدبٍ وصوب بقي زيلنسكي يطالب بالمزيد إلى أن بلغ به الأمر لأن ينادي بفرض حظرٍ جويّ وطرد روسيا من مجلس الأمن الدولي. استبسل زيلنسكي في الدفاع وكسر شوكة الجيش الروسي حول العاصمة كييف وأجبره على الانسحاب وإلغاء خططه في احتلال العاصمة والاكتفاء بالتركيز على شرق البلاد.

لقد قدّم زيلنسكي من خلال بقائه في ساحة المعركة قضية الشعب الأوكراني للعالم بقوّةٍ ووضوح في الوقت نفسه. إنه شعب يتطلّع للاستقلال والحرية ويتعرض لغزو خارجي ظالم ليس له أي مبرّر.

أما المعارضة السورية بمختلف هيئاتها وشخوصها لم يحصل وأن انتقلت إلى مسرح الأحداث في الداخل السوري رغم تقادم العهد عليها، واكتفت بمراقبة السوريين يموتون من بُعد كأيّ فريقٍ دبلوماسي أجنبي يعمل على سوريا من مكاتبه الآمنة في بلاده بعيداً جداً عن الأراضي السورية. وقدّمت المعارضة السياسية صورةً لأشخاصٍ اتكاليّين وكُسالى، طامحين بالسلطة وينتظرون من شعبهم الذي يُقتل ويُشرّد أن ينيلهم إياها على طبقٍ من ذهب وهم في مأمنٍ من لظى الحرب التي يكتوي بها الشعب.

كان الشرخ كبيراً بين من يقاتل على الأرض ومن تنطّع لتمثيل الثورة في الخارج. بل ما برح بعض المتنطّعين يترفع عن الثوار الشجعان ويتكلّم بفوقيّةٍ وسذاجةٍ أحياناً عن رفض العنف ومعارضة اللجوء للسلاح، وكأنه يريد للناس أن يموتوا دون أن يحاولوا دفع الموت عن أنفسهم. إن الأداء العسكري لزيلنسكي لا يشتري هذه المثالية الزائفة بفَلس!

ثانياً: الأداء السياسي والإعلامي

لم تلهِ الحيثيات العسكرية والدفاع عن كييف الرئيس زيلنسكي عن واجبه كقائدٍ سياسي منتخب للدولة الأوكرانية، بل مضى يعدّ جدول أعمالٍ يومياً حافلاً باللقاءات الافتراضية والمقابلات مع قادة الدول، والهيئات الدولية، والبرلمانات العالمية، ووسائل الإعلام المؤثرة، حتى الروسية منها.

أظهر زيلنسكي مهارات تواصل عالية وكفاءة في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وتقنيات الاتصال الحديثة. ألقى خطابات عصماء وبثّ رسائل فيديو لكثيرٍ من الحلفاء والمتعاطفين بل والمتردّدين أيضاً. وبالمجمل، كان لإطلالة هذا الرئيس من عاصمةٍ تتعرض للقصف وحديثه وسط أصوات الانفجارات عن قيم الحرية والديمقراطية وقع كبير في العقول والقلوب على مستوى العالم وخصوصاً عندما خاطب زيلنسكي الكونغرس الأميركي ومجلس العموم البريطاني والكنيست الإسرائيلي والبرلمان الكندي وقمة الناتو في بروكسل وقادة الاتحاد الأوروبي، ولم يوفّر حتى الطيارين الروس الذين يقصفون بلاده فخاطبهم في رسالة فيديو قائلاً، "سوف تتمّ محاسبتكم بشكلٍ أو بآخر، سواء اليوم أو بعد حين. لا مفرّ لكم من الحساب."

وكان كلما يفرغ من إلقاء خطاب يسارع زيلنسكي إلى تحميله على وسائل التواصل ويجعله متاحاً للجمهور العالمي كي يطّلع عليه.

هل هناك من حاجةٍ للتذكير أين تعقد المعارضة السورية مؤتمراتها الصحفية منذ أكثر من عشر سنين؟ وهل هناك من شكّ في فشل معظم تلك المؤتمرات وغياب أي تأثير حقيقي لها؟ وإذا وضعنا المؤتمرات الصحفية ذات "البريستيج" العالي الذي طالما أظهرته قيادة المعارضة جانباً، هل فكرت المعارضة يوماً بوسائل غير تقليدية لمخاطبة الحكومات والشعوب؟ هل استفادت من تقنيات التواصل التي استخدمها زيلنسكي وهي متاحة في كل البلدان وحتى للناس العاديين؟

على العكس، بإمكاننا التأكيد أن أداء المعارضة السياسي والإعلامي جاء أدنى بكثيرٍ من التضحيات الكبرى للشعب السوري وأساء من دون قصد لقضية الثورة السورية ولحقوق الشعب السوري في الحرية والكرامة. إذ كيف ستنظر الدول والشعوب بجدّية لأشخاصٍ يطلّون بربطات عنق من إسطنبول والرياض والدوحة وباريس ليتحدثوا باسم ثورة شعبٍ تسحقها الآلة العسكرية الروسية والأسدية في إدلب ودوما ودرعا وحلب وحمص ودير الزور؟

ثالثاً: الشجاعة الأخلاقية

لكن زيلنسكي رغم نجوميته العسكرية والسياسية لم يأخذه العجب والخيلاء وبقي محافظاً على توازنه النفسي وواقعيته السياسية. فقد وافق على عقد مفاوضات سياسية مباشرة مع العدو الروسي وأعلن أكثر من مرة عن رغبته في لقاء غريمه المعتدي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

 لا شك أن رغبة زيلنسكي في لقاء بوتين تنطوي على شجاعةٍ أخلاقية عالية، وثقة بتأييد الشعب الأوكراني له. فلو كان زيلنسكي يخشى المزايدات الوطنية لما عرض لقاء من يقصف شعبه ويدمّر بلده. هنا يظهر الفرق بين القائد المنقوصة شرعيته والقائد الذي يستمد شرعيته وموقفه من التفويض الشعبي وثقة الناس به.

في أيام النضال العسكري في الثورة السورية كانت تحصل أحياناً اتصالات محدودة بين الثوار وقادة جيش النظام على الأرض. كان الثوار وهم يدافعون عن الأراضي المحررة لا يتورّعون أحياناً عن مخاطبة ما بقي من ضمير ووطنية عند القادة الميدانيين للنظام. فقد حصلت مثلاً حوارات باستخدام القبضات اللاسلكية حثّ فيها الثوار قادة النظام الميدانيين على الانشقاق. وفي حالات نادرة حصلت مكاشفات وعتابات صريحة وحزينة كما حصل مثلاً بين العقيد مصطفى شدود والثوار في المليحة قرب دمشق عام 2013 والذي وثّقته كاميرات الناشطين.

 لكن المعارضة السورية في إسطنبول لم تمتلك يوماً الشجاعة لمدّ اليد للحوار ومحاولة البحث عن شركاء فيهم بقيّةٌ من وطنيةٍ وضمير في صفوف النظام. وعلى عكس الثوار على الأرض، أضفى قادة المعارضة حالةً من الطهرانية المُصطَنعة على أنفسهم ورفضوا أية محاولة صادقة للوصول إلى طبقات النظام السوري بشكل مباشر ودون وساطات دوليّة. وباستثناء الرسائل الجريئة التي صدرت أحياناً عن الشيخ معاذ الخطيب، فإن كل ما كانت تفعله المعارضة هو الدعوة البائسة والعاجزة لإسقاط النظام بكل رموزه وأركانه؛ وهو أمر تفشل فيه المعارضة إلى اليوم حتى بعد أن قبلت بكثيرٍ من رموزه ومعظم أركانه. فنظام الأسد ما يزال في الحكم والمعارضة ما تزال في إسطنبول. لم يتغير شيء!

ونقول من باب الختام: قد يعترض أحدهم قائلاً إن الغرب كان سيساعد أوكرانيا في كلّ الأحوال بوجود زيلنسكي ومن دونه وأن العالم تخلّى عن الشعب السوري بوجود المعارضة ومن دونها.

الشقّ الأول من الاعتراض صحيح نسبياً فقط وذلك لأن أداء زيلنسكي هو الذي أعطى الشرعية السياسية للحكومات الغربية كي تقدم دعماً غير محدود لأوكرانيا دون اعتراض شعبي، بل على العكس كانت الشعوب تحضّ الحكومات على تقديم المزيد. لنتخيّل للحظة أن أداء زيلنسكي كان مثل أداء المعارضة السورية، جباناً ومهلهلاً ومفتقداً للشجاعة الأخلاقية هل كانت ستصمد بلاده مدةً كافية لالتقاط الأنفاس واستقبال المساعدات العسكرية الغربية؟

أما الشقّ الثاني من الاعتراض فهو غير صحيح بنسبةٍ كبيرة. لقد حظيت الثورة السورية باهتمام عالمي كبير في عامها الأول. وما تزال سرديّة الثورة السورية القائمة على العدل والحرية والكرامة تتمتع حتى اليوم بوزنٍ أخلاقيّ كبير وتعاطف أصحاب الضمائر الحرّة في العالم. وما كان العالم ليتخلّى عن الشعب السوري لو قُيّض له معارضة أكثر كفاءةً وشجاعة كي تمثله. لننظر فقط إلى ما يحصل في صفوف الائتلاف بإسطنبول هذه الأيام لنعرف حجم البلوى.

كان يجدر على الأقل ببعض الشخصيات والأحزاب في المعارضة -ولو من باب أضعف الإيمان- أن يفسحوا الطريق أمام الجمهور الواسع الذي تظاهر ضد النظام كي يفرز معارضته الخاصّة ويقدّم قادته الميدانيين الشجعان من سياسيين وإعلاميين وناشطين وثوّار ليشاركوا هم أيضاً بتمثيل الثورة والنطق باسمها بصوتٍ جهوريٍّ شجاع يماثل صوت زيلنسكي. لكنّ المعارضة أخفقت حتى في هذه! لقد تشبّثت بالسلطة، والأصحّ أنها تشبّثت بالمعارضة لا بالسلطة؛ وكأن بها قد تلبّست دورها ولا تريد أن تبرحه.