في السادس من شباط الحالي استفاق السكان في جنوب تركيا وشمال سوريا على زلزالين عنيفين خلفا كارثة وصفها خبراء بأنها الأكبر في المنطقة منذ قرن، ومع حجم الدمار العمراني الهائل الذي خلف مئات الألوف من القتلى والمصابين والمشردين يمكننا القول بأننا أمام نكبة سيمتد تأثيرها اجتماعيا واقتصاديا ربما لعشرات السنين القادمة.
في الجانب السياسي لهذه الكارثة.. فغالبا ما تفتح أزمات كهذه المجال لنشاط إنساني محمل بأبعاد سياسية تكون بمثابة إعادة برمجة للعلاقات البينية المتوترة بين الدول، فالعامل العاطفي والإنساني هنا يتكثف مجمدا خلافات الماضي وفاتحا الباب لانتهاز الفرص وتدفئة الأجواء السياسية، وهذا ما بدا واضحا في الموقف اليوناني من تركيا عقب الزلزال، والذي قابلته أنقرة بالكثير من الإيجابية والرغبة بردم الهوة بين الجارين إذ اتسمت علاقتهما في الماضي بالتوتر المستمر، بسبب الكثير من القضايا الخلافية التي وصلت في بعض الأوقات إلى ما يشبه التحشيد العسكري وإعلان الحرب بين الطرفين.
حدوث الزلزال وما خلفه من دمار في الأنفس والعمران كان بمثابة مدخل لتلك الدول لتتجرأ ومن باب الإنسانية على مد يدها للأسد عبر زيارات دبلوماسية
هذا ما يكون عليه الحال في الدول الطبيعية ذات الأنظمة السياسية المتسقة والمقبولة دوليا، ولكن في الحيز السوري مما أصابه الزلزال فنحن اليوم أمام نظام سياسي منبوذ ومقاطع دوليا ومعاقب اقتصاديا، جعل بعض الدول تخفي رغبتها في إعادة تطبيع العلاقات معه أو تكتفي بالمحاولات الخجولة في وصله خوفا من أن تتأثر سلبا بحكم العقوبات المفروضة عليه.
لكن حدوث الزلزال وما خلفه من دمار في الأنفس والعمران كان بمثابة مدخل لتلك الدول لتتجرأ ومن باب الإنسانية على مد يدها للأسد عبر زيارات دبلوماسية، عنوانها التضامن والعزاء وهذا حال دولة الإمارات والتي دائما ما تظهر ودها للأسد في كل الكوارث التي تحل بسوريا، في محاولة غير مفهومة سياسيا منها للسباحة عكس التيار الدولي، والإصرار على التطبيع مع الأسد، لتأتي كارثة الزلزال المدمر اليوم جالبة معها كارثة سياسية لا تقل أهمية عن كوارثه البشرية والاجتماعية، والتي تتمثل بوصول عبد الله بن زايد وزير الخارجية الإمارتي إلى دمشق ولقائه بشار الأسد في زيارة عنونت بالإنسانية، لكنها تخفي رغبة أبو ظبي المتكررة في تعويم الأسد وإعادته إلى محيطه العربي، مغلقة بذلك الباب بشكل نهائي على آخر ما تبقى من ثورات الربيع العربي، مما لا شك فيه فإن خطوة الإمارات هذه غير مفاجئة خصوصا أن الوزير ذاته زار الأسد أكثر من مرة على مدار أقل من عام.
زيارة بن زايد يبدو أنها فتحت شهية دول أخرى كانت تخفي رغبتها بمصافحة الأسد، وهنا نقصد المملكة الأردنية التي اكتفت فيما مضى، وعلى مدار أكثر من عام بسياسة الاتصالات الخجولة بين رأسي النظامين، في محاولة للمملكة لإعادة علاقتها بنظام الأسد والتي كانت غالبا ما يكبحها الموقف الغربي الصارم من نظام الأسد، وبعض المواقف العربية التي باتت معروفة كالموقف السعودي والقطري، حتى أتى الزلزال كما أسلفنا سابقا لتحط طائرة وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي بنفس سيناريو وعنوان سلفه ونظيره الإماراتي.
في سوريا.. الزلازل لا تهدم البيوت وتقتل الآلاف وتشرد الملايين فقط، بل إنها تبني أيضا، لكن هنا ميدانها السياسة حيث يبدو أن كارثة الزلزال بدأت بإعادة بناء علاقات نظام الأسد مع جواره العربي، ممن رأوا في الزلزال خير مناسبة لمصافحة الأسد، حتى باتت طائرات وزراء الخارجية تشغل مدارج مطار دمشق بدلا من طائرات السلاح والميليشيات من كل حدب وصوب، فكيف ستتطور الأمور في دمشق وهل ستتمكن المشاعر الإنسانية والتضامن من كسر قيود الأسد المدان بجرائم ضد الإنسانية؟ وهل سيتمكن الزلزال الهادم من إعادة إعمار نظام الأسد سياسيا أما السؤال الأهم فهو من سيكون الزائر التالي؟