في منظور علم الاقتصاد حجم الناتج المحلي الإجمالي هو مقياس لحجم الاقتصاد في البلد، الذي هو بدوره الأساس لما يستطيع الناس استهلاكه وما يستطيعون استثماره في الإنتاج المستقبلي. أي أن مقدار الرفاه الاقتصادي لأي بلد محدد بحجم الناتج المحلي الإجمالي، وزيادة ذلك الناتج هو الوسيلة الأساسية لرفع مستوى الرفاهية. يتم التعبير عن الزيادة في الناتج المحلي الإجمالي بمصطلح النمو الاقتصادي. لذلك يقاس أداء الحكومات أساسا من خلال معدلات النمو في الناتج المحلي. وكلما كان معدل النمو الاقتصادي مرتفعا سنويا يدل على نجاح الحكومة، ومن ثم إمكانية استمرارها في السلطة.
السياسات الاقتصادية هي الأدوات الأساسية التي تستخدمها الحكومات في تحفيز النمو الاقتصادي، وعلى رأس تلك السياسيات تقف السياستان النقدية والمالية. السياسة المالية تهتم بقضايا الموازنة العامة للدولة وتستخدمها لتحفيز الاقتصاد سلبا أو إيجابا. أي أن الدولة هنا تغير في الإنفاق الحكومي أو في تحصيل الأموال (وعلى رأسها الضرائب) من أجل التأثير على الاقتصاد. أما السياسة النقدية فهي تهتم أساسا بتغيرات الكتلة النقدية في الاقتصاد باستخدام معدل الفائدة (وأدوات أخرى بديلة مثل طباعة النقود أو مكملة مثل القيود على الإقراض المصرفي....الخ).
الأوضاع الاقتصادية التي تواجهها البلاد، والتي ينبغي أن تبادر الحكومة لتحريك أدوات سياساتها الاقتصادية للتعامل معها، في أشكالها الكاملة، هي حالات الركود أو التضخم أو الركود التضخمي. وفي كل الحالات هناك وصفات متعارف عليها في علم الاقتصاد للتعامل معها، على الرغم من أن حالة الركود التضخمي إشكالية نوعا ما.
في حالة الركود تتراجع معدلات نمو الاقتصاد إلى المستوى السلبي، وتنتشر البطالة وإفلاس الشركات والفقر...الخ. وباعتبار أنه يمكن أن يعزى الأمر إلى مشكلة في الطلب الكلي، فإن الحكومة تلجأ إلى سياسات اقتصادية توسعية، بمعنى تضخ في السوق قدرة شرائية ترفع الطلب. في السياسة النقدية يتطلب هذا زيادة الكتلة النقدية من خلال خفض معدلات الفائدة بحيث يتشجع الناس والفعاليات الاقتصادية على الاقتراض، مما يعني زيادة القوة الشرائية في السوق، ومن ثم زيادة الطلب الكلي الأمر الذي يدفع الشركات للعودة للعمل لتلبية الطلب مما يزيد من فرص العمل والدخل.....الخ، وهكذا يرتفع الاستثمار ويزداد الإنتاج وينتعش الاقتصاد ويبدأ في النمو الإيجابي صاعدا من الركود.
في حالة الركود التضخمي يكون لدينا نمو سلبي مع ارتفاع مستمر في الأسعار أي استمرار التضخم، وفي هذه الحالة قد يكون التضخم ناتجا عن ارتفاع الكلفة وليس الطلب
في حالة التضخم يكون الاقتصاد ناميا بما يتجاوز طاقاته، وهذا يعني ارتفاع الطلب الكلي والتضخم. يشكل التضخم خطرا على النمو المستقبلي باعتباره يكبح الاستثمار، نظرا لأن هذا الأخير يتطلب حسابات طويلة الأجل يشوهها التضخم (تقلبات الأسعار). في هذه الحالة تحاول الحكومة كبح الطلب باستخدام السياسة النقدية، أو كبح الاقتراض وتقليل الكتلة النقدية، ويتم هذا من خلال رفع معدلات الفائدة (سياسة نقدية انكماشية أو متشددة). رفع معدل الفائدة يجعل الاقتراض مكلفا مما يعني التخفيف منه، والنتيجة هي تراجع الكتلة النقدية والطلب. وتراجع الطلب يخفض الأسعار ويتراجع التضخم.
في حالة الركود التضخمي يكون لدينا نمو سلبي مع ارتفاع مستمر في الأسعار أي استمرار التضخم، وفي هذه الحالة قد يكون التضخم ناتجا عن ارتفاع الكلفة وليس الطلب. وسياسة خفض الطلب من خلال رفع معدل الفائدة قد لا تجدي تماما، باعتبار أن رفع معدل الفائدة يكبح الطلب وهو ما يسهم في تفاقم الركود أو النمو السلبي الموجود أصلا. لكن هناك الكثير من الاقتصاديين يصرون على أنه يجب رفع معدل الفائدة في هذه الحالة وتحمل ألم الركود لفترة من أجل القضاء على التضخم. لأن القضاء على التضخم واستقرار الأسعار هو ما سيحفز الاستثمار ومن ثم النمو الاقتصادي في المستقبل.
الحالة التركية هي حالة ارتفاع مستمر في التضخم، والسياسة النقدية المتوقعة في مثل هذه الحالة هي رفع معدل الفائدة من أجل كبح الاقتراض وتخفيف الكتلة النقدية في السوق، ومن ثم تخفيف القدرة الشرائية وكبح الطلب بما يؤدي لتهدئة الأسعار وخفض التضخم. والمفارقة أن ما يجري في الواقع هو عكس ذلك تماما. تصر الحكومة التركية على فعل العكس، أي أنها مصرة على خفض معدلات الفائدة. وهذا ما يؤدي إلى تفاقم التضخم، وهي أمر له انعكاسات خطيرة على النمو الاقتصادي المستقبلي. لأن التضخم المستمر يربك الحساب الاقتصادي ويرفع المخاطر مما يجعل الاقتصاد غير جاذب للاستثمار، ينتج عن ذلك تراجع الاستثمار ومن ثم الإنتاج والنمو الاقتصادي.
هذه السياسة النقدية التي تتبعها الحكومة التركية، والتي تعاكس ما هو متعارف عليه في علم الاقتصاد، تثير سؤالين: الأول هو لماذا تفعل الحكومة ذلك؟ والثاني إلى أين يمكن أن يؤدي ذلك؟
لماذا تفعل الحكومة التركية ذلك وتعاكس منطق علم الاقتصاد؟ المتوقع إجابتان: الأكثر ترجيحاً لدي هو أن الحكومة تتبع منطق السياسة أو الاستمرار في الحكم. فالحكومة التركية أمام استحقاقات سياسية مصيرية خلال فترة أقل من سنتين، وأي سياسة نقدية متشددة (رفع الفائدة) قد تتسبب في كبح النمو الاقتصادي على المدى القصير، وهو ما قد يتسبب في فقدان فرص العمل ويرفع معدل البطالة المرتفع أصلا. وقد يكون هذا مكلفا في صندوق الانتخابات. وقد انتبه الباحثون إلى مثل هذا الميل في السياسة النقدية الأميركية وسموه الدورة الاقتصادية الانتخابية، حيث إن الرئيس في الولاية الأولى لا يتبع سياسة نقدية متشددة عادة، أو يحاول الحفاظ على معدلات الفائدة منخفضة، لأنه مقبل على الانتخابات. أما في الولاية الثانية، فإن الرئيس يميل للسياسة النقدية المتشددة لأنه لن يشترك في الانتخابات فهي ولايته الأخيرة ولا يهتم بالأصوات كثيرا. في الحالة التركية يوجد عامل حساب انتخابي إضافي يتمثل في أن النسبة الكبرى من المصوتين للحكومة هم من ذوي الميول الإسلامية وهم لديهم حساسية دينية تجاه الفائدة، وهذا التعامل مع معدل الفائدة يدغدغ عواطفهم بشدة.
إن انتصرت الحكومة على علم الاقتصاد ونقلت الاقتصاد التركي لحالة من الازدهار والنمو الاقتصادي، هي فرصة لعلم الاقتصاد أن يطور منطقة ونظرياته
الإجابة الثانية هي أن لدى الحكومة نظرية اقتصادية خاصة بها، تعاكس علم الاقتصاد التقليدي. ربما يكون الأمر كذلك، على الرغم من أنني لا أرجحه أبدا. لكن الأمر مثير لاهتمام الباحث والمراقب أن ينتظر ويرى ما الذي يحدث في هذا الصراع بين علم الاقتصاد والحكومة التركية، أو بين النظرية الاقتصادية التقليدية والنظرية الاقتصادية للحكومة التركية.
سواء كانت الإجابة الأولى هي التي توصف الحالة التركية أو الثانية أو الإثنين سوية فإنها مثيرة جدا لاهتمام الباحثين والمراقبين. نحن أمام تجربة مخبرية للنظرية الاقتصادية لا تتاح بهذا الوضوح إلا نادرا. إن انتصرت الحكومة على علم الاقتصاد ونقلت الاقتصاد التركي لحالة من الازدهار والنمو الاقتصادي، هي فرصة لعلم الاقتصاد أن يطور منطقة ونظرياته. وإن انتصر علم الاقتصاد ستكون تجربة مكلفة ومؤلمة للشعب التركي لأن الاقتصاد سيتدهور للمزيد من التضخم وكبح الاستثمار، والنمو تاليا، ومن ثم المزيد من البطالة والفقر.