خطوة مقابل كبوة

2022.02.18 | 05:40 دمشق

astant_15.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم تكن مواجهة السوريين لنظام الأسد وحلفائه بمعزل عن مواجهات أخرى مع أطراف كان من المفترض أن تتّسم بالحياد على الأقل، إن لم نقل بوجوب انحيازها إلى قواعد العدالة والقانون اللذين ينطويان – حكماً – على بعدٍ أخلاقي رادعٍ لأي انزلاق نحو التواطؤ مع سطوة القوة والتوحّش، ولكن يبدو أن ثمة انزياحات في المرجعيات الدولية قد أنتجت مساراً آخر من العدوان على الحق السوري، وإنْ بأشكال مختلفة تحاول التواري بلبوس الدبلوماسية الخادعة. ولعل الانزياح الأكثر خطورة يتمثل بانعطاف صوت الحق والقانون إلى مخدع الجريمة، ليس بهدف تقويض أركانها أو ردعها من الاستمرار أو محاكمتها، بل لشرعنة بشاعتها وتبرير منهجها القائم على استمرار الإبادة والاستئصال. ولعل هذا ما يفسّر مسعى المبعوث الأممي (غير بيدرسون) نحو التسويق لمشروع ما يُدعى (خطوة مقابل خطوة) الذي استلهم جزءاً من مفرداته من مبادرة ملك الأردن أثناء لقائه ببوتين خلال شهر آب من العام الماضي، كما استلهم أيضاً محفّزاته من هشاشة الموقف الدولي، وعلى وجه الخصوص موقف الولايات المتحدة الأميركية الذي اتّسم بمزيد من البراغماتية التي وصلت إلى درجة التنصّل من المسؤولية الأخلاقية حيال نظام الإبادة الأسدي.

لم تكن مبادرة بيدرسون (خطوة بخطوة) بدعةً جديدة ينتجها التعاطي الدولي مع القضية السورية، وكذلك لم تكن اجتهاداً متفرّداً يسجل من خلاله بيدرسون سبْقاً إبداعياً

على أية حال، لم تكن مبادرة بيدرسون (خطوة بخطوة) بدعةً جديدة ينتجها التعاطي الدولي مع القضية السورية، وكذلك لم تكن اجتهاداً متفرّداً يسجل من خلاله بيدرسون سبْقاً إبداعياً يوجب ترقينه في سجل الكشوفات الإبداعية بعالم السياسة، بل لا يعدو أن يكون مسعاه طوراً ثانياً من أطوار المسعى الروسي للالتفاف على القرارات الدولية، بغية إفراغها من مضامينها الجوهرية، ومن ثم العودة إلى إدارة الصراع وفقاً لموازين القوى التي يظهر فيها الروس متفوقين عما سواهم من الأطراف الأخرى. لقد سبق وأنْ أفلح المبعوث الدولي السابق (ستيفان ديمستورا) بإنجاز شطر مهم من المسعى الروسي، وأعني قدرته على إقناع هيئة التفاوض في المعارضة السورية بفكرة تقسيم، بل تجزيء مضمون قرار جنيف 1 إلى سلال أربع، كان ذلك في اللقاء الرابع من مسار جنيف يوم الثالث والعشرين من شباط عام 2017، وقد أفلح ديمستورا أيضاً – آنذاك – وبوعد شفهي لا ينطوي على أي جانب إلزامي، بإيهام مفاوضي المعارضة بأن الغاية من فكرة التقسيم هي مسألة إجرائية لا أكثر، وأن تقديم سلة الدستور على غيرها لا يعني التنكّر أو الإهمال للسلال الأخرى، وذلك عبر مقولة (الاتفاق على كل شيء، أو لا شيء)، في حين تؤكّد المعطيات والنتائج الراهنة أنه حتى المسار الدستوري بات موضع التفاف ومخادعة من جانب الأسد والأوصياء الروس.

الاستعصاء الذي يواجهه بيدرسون في مسار لجانه الدستورية قاده إلى التفكير في تغيير وجهة التفاوض، وهذا لن يتحقق إلّا بالتوجه نحو الجانب الأضعف

ما هو مؤكّد أن الاستعصاء الذي يواجهه بيدرسون في مسار لجانه الدستورية قاده إلى التفكير في تغيير وجهة التفاوض، وهذا لن يتحقق إلّا بالتوجه نحو الجانب الأضعف الذي يمكن أن يقبل بإيجاد ثغرات أخرى تتيح للاعب الدولي أن يناور مجدداً من خلالها، وبناء عليه، ربما يغدو التعبير الأكثر إفصاحاً عن مسعى بيدرسون هو (خطوة من النظام مقابل كبوة من المعارضة). هل يمكن لبيدرسون التوجه نحو هذا المسعى بدوافع ذاتية ذات صلة بمصلحته الشخصية؟ ربما كان شيءٌ من هذا، وهل يمكن لبيدرسون إطلاق هذه المبادرة دون التنسيق مع الجانب الروسي باعتباره اليد التي تمسك بقوة رقبة بشار الأسد؟ يذهب الكثيرون إلى استحالة ذلك دون إيحاء روسي، علماً أن الكثيرين أيضاً يرون في رفض نظام الأسد لتلك المبادرة ترجيحاً لكونها غير منبثقة عن تنسيق بين المبعوث الدولي وموسكو. وأيّاً كان الشأن، فإن الخطوات التي يسعى بيدرسون لإدراجها كمسار مواز للحلول المستعصية لم تترك انطباعاً ينبئ بعدم قبولها فحسب، بل رأى فيها الكثيرون استفزازاً يحمل درجة عالية من الوقاحة، إذ هل تجب مكافأة نظام الأسد على إمعانه في الإجرام، أم على مخادعته وعدم قبوله الامتثال للقرارات الدولية، ولعل هذا ما دفع هيئة التفاوض إلى رفض تلك المبادرة من خلال بيان أصدرته يوم التاسع من شباط الجاري، علماً أن بيان هيئة التفاوض لا يملك القدرة على طمأنة الشارع السوري، ليس لأسباب تتعلق بمضمونه، بل لقناعة الكثيرين بأن هذا الرفض الذي تضمنه البيان ربما لا يملك الاستمرار أو الثبات إذا ما تعرّض لضغوطات إقليمية أو دولية، وخاصة أن تلك الجهات هي ما كان، وما يزال يمسك بخرائط التفاوض ويعمل على رسمها وتحديد مساراتها.

لعله من السذاجة التفكير بمبادرة (خطوة مقابل خطوة) من خلال حصرها بنوازع المبعوث الدولي أو تمادي نظام الأسد وحلفائه في استمرار عدوانهم على السوريين فحسب، دون النظر إلى الطابع (المُركّب) للمأساة السورية التي لم تعد تتمثل بوجود نظام دموي لا يرى سبيلاً إلى بقائه في السلطة إلّا من خلال استمراره بفعل الإبادة وحسب، بل تتمثل أيضاً في كون ممارسة الإبادة – كعمل إجرامي وفقاً لجميع الشرائع الإنسانية – قد انزاحت من كونها فعلاً استثنائياً خارقاً لما هو إنساني، إلى فعل اعتيادي وربما مألوف، ينظر العالم أجمع إلى تداعياته اليومية دون أية ردّة فعل ذات قيمة، كما يتجسّد الجانب الأكثر تعقيداً من المشكلة حين تصبح الدول العظمى التي تدعي وصايتها على قيم الكرامة والأمن والاستقرار والديمقراطية وسيادة القانون أكثر ليناً ومهادنةً وتزلّفاً حيال المجرم كلّما ازداد إمعاناً في إجرامه، أليست المواقف الأميركية وسواها التي نادت مراراً بضرورة محاسبة الأسد على جرائم الكيمياوي وقتل المعتقلين وحرق جثثهم في السجون والتهجير القسري لمئات الآلاف من المواطنين تصبح فاقدة القيمة نتيجة هشاشة موقفها الراهن من مسألة إعادة تعويم الأسد وعودته التدريجية إلى المحيط العربي والدولي؟ أليس تجاهل المجتمع الدولي لطغمة لم تعد الجغرافيا كابحة لشناعتها، يجسّد قبولاً بإهانة كبيرة وامتهان فظيع لكل ما يركن في الضمير الإنساني من قيم؟

لعله من الضروري أن يدرك السوريون أن الطغمة الأسدية حين كانت في أضعف حالاتها عسكرياً وسياسياً (2012 – 2015) لم تتخلَّ عن ذرة من صلفها وتمسّكها بكل أدوات القذارة والإبادة

لعله من الضروري أن يدرك السوريون أن الطغمة الأسدية حين كانت في أضعف حالاتها عسكرياً وسياسياً (2012 – 2015) لم تتخلَّ عن ذرة من صلفها وتمسّكها بكل أدوات القذارة والإبادة، فهل يتوهم عاقل بأن تفارق تلك الطغمة ماهيتها الآن بعد أن مكّنها حلفاؤها الروس والإيرانيون من التقاط أنفاسها واستعادتها السيطرة على مجمل ما كانت قد فقدته؟ وبالتالي ألا يستدعي ذلك من المشهد السياسي المعارض إعادة جذرية للتفكير في عملية التفاوض برمتها، وكذلك التفكير في استراتيجيات جديدة للمواجهة، تنبثق من معاينتهم الحقيقة لطبيعة الخصم وليس من انطباعات وتعريفات الآخرين؟