في الشهر الأخير من العام 2023 كان ثمة محاولة لكاتب هذه السطور (نُشرت في 23 – 12 على موقع تلفزيون سوريا) تهدف إلى مقاربة أوليّة لما يسمّى بجردة حساب محلّية تقوم بها سلطات الأمر الواقع الأربع التي تتموضع على الجغرافيا السورية، وقد تمت الإشارة إلى عدّة إجراءات تقوم بها كل واحدة من تلك السلطات منفردةً، إلّا أن تلك الإجراءات، وعلى الرغم من تباين الجهات الحاكمة إيديولوجياً وسياسياً، فإن ثمة ما هو مشتركٌ وناظم لسلوكها الإجرائي المشار إليه، ونعني ركون تلك السلطات إلى قناعة المضيّ قدماً نحو تأبيد الحالة الراهنة وتكريس النفوذ وفقاً لموازين القوى التي تتحكّم برسم التخوم القائمة بين مناطق النفوذ، ما يعني بصريح العبارة: تكريس مبدأ تقاسم النفوذ في سوريا وتحويله من حالة راهنة فرضتها ظروف الحرب والاقتتال، إلى حالة دائمة ربما تستمدّ شرعيتها تدريجياً من أمرين اثنين: استمرار الدعم الإقليمي والدولي لحالة (الأوصال السورية المقطّعة)، بذريعة الحفاظ على استمرار وقف الحرب، وبالتالي الحدّ من هجرة السوريين إلى دول الجوار، والأمر الثاني حرص أصحاب تلك السلطات على مصالحهم التي تتغذّى وتستمدّ مقوّمات استمرارها من تماهيها، بل امتثالها للمصالح الخارجية من جهة، وكذلك من غياب البديل الوطني الذي يفتقده السوريون من جهة أخرى.
لقد أخلص عبد الحليم خدّام أشدّ الإخلاص لحافظ الأسد طيلة ثلاثة عقود، وكان شريكاً له في تحمّل المسؤولية الأخلاقية عن جميع تداعيات سياساته الإجرامية بحق السوريين
لعله من نافل القول أن يكون هاجس (أمن السلطة) هو الشاغل الرئيس للمتحكّمين في البلاد السورية (أصالةً أو وكالةً)، ولئن بدت مجمل الإرهاصات خلال الأشهر الأخيرة الماضية تشير إلى احتمال قيام بشار الأسد بتغيير مواقع بعض البيادق الأمنية في كيان سلطته، فإن تلك الاحتمالات باتت أمراً واقعاً، من خلال إقالته للواء علي مملوك من رئاسة مكتب الأمن الوطني، وجعْله مستشاراً أمنياً في رئاسة الجمهورية، وتعيين المدعو كفاح ملحم بدلاً عن مملوك، في حين تمّ تعيين المدعو كمال حسن رئيساً لشعبة المخابرات العسكرية، وذلك وفقاً لأنباء لم يؤكدها أو ينفها الإعلام الرسمي لسلطة الأسد. وبعيداً عن دوافع رأس السلطة من هذه التغييرات، فإنه يمكن التأكيد على ألّا علاقة لها بالمطلق بالشأن الحياتي للناس الذي لا يبدو أنه شاغلٌ هام من شواغل السلطة قياساً إلى شواغلها الأمنية. ولئن بدا هذا التغيير داخل الهرم الأمني مادّة دسمة لوسائل الإعلام التي مضت تبحث وتحلّل في تداعياته وبواعثه، وتحاول استقراء ما يمكن أن يفضي إليه، فربما بدا هذا أمراً مشروعاً من جانب مهني إعلامي يرى من الضروري تسليط الضوء على الظواهر السياسية والمجتمعية وتزويد الرأي العام بتفاصيل ما يجري بعيداً عن الانحياز القيمي لتلك الظواهر، إلّا أن هذا الاهتمام الإعلامي ربما حاز القدرة على الوصف الدقيق للظاهرة ولكن لن يكون بمقدوره تغيير (الماهيّة) الكامنة في هذا الإجراء الأمني والتي باتت مألوفة لدى السوريين خلال الحقبة الأسدية في عهدَيْ الأب والابن معاً.
لقد أخلص عبد الحليم خدّام أشدّ الإخلاص لحافظ الأسد طيلة ثلاثة عقود، وكان شريكاً له في تحمّل المسؤولية الأخلاقية عن جميع تداعيات سياساته الإجرامية بحق السوريين، لكن حالما شعر بانخفاض منسوب مصالحه لدى الأسد الابن، هرب من قبضة السلطة وكاد أن يصبح (مُخلّصاً) للسوريين، إشارةً إلى تحالفه مع الإخوان المسلمين في تشكيل (جبهة الخلاص الوطني)، وكذلك انتهى غازي كنعان، الذي بات يُطلق عليه (الضحيّة)، في حين أن ضحاياه من اللبنانيين والسوريين ما تزال قصص مآسيهم ماثلة أمام الكثيرين، والأمر نفسه تكرر حين دبّر بشار الأسد مقتلة ما يسمى (خلية الأزمة) في مكتب الأمن القومي في 12 تموز عام 2012، والتي أودت بحياة عدد من أركان حكمه، فقيل آنئذٍ إنهم قُتلوا بسبب موقفهم المناهض لحرب السلطة على المواطنين السوريين، ولا يُستبعد أن ينتهي علي مملوك أيضاً إلى ضحيّة، وخاصة أن مصادر إعلامية روسية أفادت بأنه نُقل إلى المشفى بعد قرار عزله من منصبه، هؤلاء جميعاً – خدام وكنعان ومملوك وسواهم – يصبحون ضحايا، وربما شيئاً فشيئاً يحوزون على تعاطف تدريجي، مبعثه الظنّ بأن هؤلاء هم ضحايا مواقفهم من السلطة أو الحاكم، بينما الحال أنّ هذه النهايات الدرامية باتت سمة بنيوية من سمات الكيانات السلطوية التي تستمد مقوّمات وجودها – عبر التاريخ - من قدرتها على البطش والتنكيل بمواطنيها وتصفية خصومها ومنافسيها مهما كان رصيدهم كبيراً في خدمة أسيادهم، ومهما كانت درجة اقترابهم وتفانيهم في خدمة حاكميهم، بشتى أشكال الإجرام، وربما باتت ظاهرة مألوفة أيضاً لدى السوريين أن تنتهي معظم الشخصيات التي كانت شريكة فاعلة أو عضوية في سلطة الأسد، إمّا إلى ضحايا في حال بطش بها الأسد، أو إلى أبطال في حال استطاعت الإفلات من سطوته.
لا غرابة أن يغدو (أبو أحمد زكور – جهاد عيسى الشيخ) أحد الناجين من بطش قائده الجولاني، بطلاً وكاشفاً للفساد والجرائم ومجاهراً بالحقائق، في حين أنه كان أحد مؤسسي جبهة النصرة في الشمال السوري
في مشهدٍ موازٍ لسلطة الأسد ربما نجد ما يشابه سيناريو الإجراء الأمني ذاته، وبعيداً عن التفصيلات في تماثل طبيعة سلطة الجولاني بسلطة الأسد، فإن المبدأ الناظم لتماسك السلطة واستمرارها عند الطرفين يُعدّ واحداً، أعني مبدأ مركزية الحكم واعتماد مبدأ الولاء والطاعة، وغياب أي فاعلية لمأسسة السلطة على الرغم من حضورها شكلاً فحسب، فلا يبدو غريباً أن يتحوّل (أبو ماريا القحطاني – ميسر علي موسى عبد الله الجبوري) إلى ضحيّة توجب المزيد من الترحّم والتعاطف في بعض الأوساط العشائرية والإسلاميين من جمهور جبهة النصرة، بعد أن كان رئيس مجلس الشورى والرجل المقرّب الأول لأبي محمد الجولاني، وكذلك لا غرابة أن يغدو (أبو أحمد زكور – جهاد عيسى الشيخ) أحد الناجين من بطش قائده الجولاني، بطلاً وكاشفاً للفساد والجرائم ومجاهراً بالحقائق، في حين أنه كان أحد مؤسسي جبهة النصرة في الشمال السوري وأحد الأذرع القوية للجولاني.
حكومة الأسد وحكومة الجولاني نموذجان سلطويان لعلهما متباعدان عقدياً وسياسياً، فالأول يتلطّى خلف خطاب علماني، والآخر يدّعي امتثاله لشريعة ربّانية، إلّا أنهما ينبثقان من جذر أخلاقي واحد، قوامه التوحّش الخارق للمقاييس والتوقعات، والمجافي لكل ما هو إنساني ونبيل. ولكن على الرغم من ذلك فإن شدّة البؤس في حياة السوريين ربما جعلت الكثيرين، في لحظات من الإحباط المتفاقم على الأرض السورية، يستمرئون الرهان على لعبة (تحوّل الجلّاد إلى ضحية) علّها تطيح بالاثنين معاً، وبقدر ما يمكن تفهّم البواعث المُفضية إلى هذا الضرب من القناعة، إلّا أن بواعثها الأساسية - بلا أدنى ريب – تكمن في غياب الحوامل الحقيقية لمشروع وطني سوري طالما أدّى عدم تحققه إلى وجود بدائل سلطوية عابرة للأوطان، بل للإنسانية أيضاً.