أياً كانت نتائج الانتخابات التركية، فستكون محرجة لنظام الأسد، محرجة فقط من حيث كونها "انتخابات" بصرف النظر عن النتائج، إن فاز أردوغان فلن يستطيع النظام السوري أن يتحدث عن ديكتاتورية التشبث بالحكم لأنه سيدين نفسه حينها، وإن فاز مرشح المعارضة فلن يستطيع الحديث عن ديمقراطية تركية لأنه حينها سيقر بديمقراطية خصمه أردوغان حينما يتنازل عن الحكم لصالح منافسه، والإقرار بالديمقراطية التركية أمر صعب على نظام الأسد الذي يسعى إلى نفيه وتكذيبه بكل ما أوتي من قدرات إعلامية مزورة أو بالحد الأدنى تجنّب الحديث عنه..
وربما كانت فكرة الانتخابات بحد ذاتها أمراً مزعجاً لنظام الأسد، سواء كانت في بلد جار لسوريا أو بعيد عنها، لأنها تذكره باستحقاق سياسي بديهي يعجز عن ممارسته بشكله الحقيقي ويتهرب منه دائماً ويستبدله بمفهوم الاستفتاء، أو "الانتخابات الاستفتائية"، أو بشكل أدق مسرحية الانتخابات التي يقدمها وهو يعلم أنه يكذب على الشعب، ويعلم أن الشعب يبادله الكذب ويعي جيداً أن الشعب يعي تلك التمثيلية، ولذلك فإن أي انتخابات حقيقية في أي بلد في العالم تصيب النظام بحساسية مفرطة وتوقعه بحرج بالغ.
ولأن النظام السوري لا يعرف الحرج، ولأنه تعمق في إيجاد تخريجات لأي موقف يمكن أن يتسبب له في حرج، فهو يختار أن يتنكر في زي نظام آخر وأن يحاكي نموذجاً سياسياً مفترضاً يتماهى مع صورته المتخيلة ويعيشها وكأنها صورته ليستطيع الهروب من حقيقته، ويظهر لجمهوره واقعاً مغايراً تماماً لواقعه ويفرضه عليه تحت تهديد السلاح.
ولأن على النظام أن يتعامل مع نتائج الانتخابات التركية باعتبارها حدثاً ذا تأثير مباشر على مسار الأحداث في سوريا، فلا بد له من إعداد نسختين من البرامج الإعلامية للرد على نتائج تلك الانتخابات، واحدة تتناول فوز أردوغان، والأخرى تتناول فوز خصمه، على أن يتم إتلاف إحدى النسختين بعد إعلان النتائج..
يعوّل النظام على زوال العقبة التركية ليس فقط باعتبار تركيا ممراً إقليمياً نحو المجتمع الدولي، بل لأن زوال تلك العقبة سيسهل خطة النظام في الانتقال إلى مرحلة أعلى من الإجرام الذي مارسه خلال اثني عشر عاماً
وفي جميع الأحوال فإن نظام الأسد لا يهمه من تلك الانتخابات سوى انعكاسها على حلمه المتأسس على إزالة العقبة التركية أمام مشروع إعادة تدويره والاعتراف به على المستوى الإقليمي، بعد أن ساعده معظم قادة الدول العربية في تجاوز العقبة العربية وتمكينه من انتزاع ذلك الحلم على المستوى العربي.
يعوّل النظام على زوال العقبة التركية ليس فقط باعتبار تركيا ممراً إقليمياً نحو المجتمع الدولي، بل لأن زوال تلك العقبة سيسهل خطة النظام في الانتقال إلى مرحلة أعلى من الإجرام الذي مارسه خلال اثني عشر عاماً وتمت شرعنته عربياً -على الأقل على مستوى البلدان العربية التي دعمته بالمطلق-، ويحلم اليوم أن ينتقل إلى مرحلة شرعنته على مستوى العالم، رغم أن العالم لم يعد يعني النظام في شيء، العالم بالنسبة للنظام هو فقط الدول التي تشبهه والمتجانسة مع طريقة حكمه، المتجانسة مع قمعه وطغيانه، أما حلم النظام الحقيقي الذي يراوده من خلال انتزاع الاعتراف به فيقبع في مكان آخر تماماً.
لا يهتم النظام بالسيادة الوطنية أو حتى باستعادة المناطق الخارجة عن سلطته، بل يتركز جل حلمه في اليوم الذي يستطيع فيه الانتقام من السوريين الذين لا يزالون خارج سيطرته، وكل ما يعنيه في الانتخابات التركية أن تفضي إلى رفع الحماية عن السوريين وإطلاق يده لمعاقبتهم، وذلك العقاب لن يكون أقل من الإبادة الجماعية لسكان المناطق الخارجة عن سيطرته وتدميرها بالكامل.
يعول النظام على انسحاب فوري لتركيا من المناطق التي تسيطر عليها في الشمال السوري في حال سقوط أردوغان، وعندها لن يتقدم النظام مباشرة لاسترداد تلك المناطق رغم قدرته على ذلك بدعم من الروسي والإيراني، بل سيطلق يد الجولاني ويسهل عليه السيطرة على تلك المناطق وإعلانها دولة إسلامية مما يتيح له ولروسيا وإيران شن حرب إبادة شاملة تحت عنوان محاربة الإرهاب، والتي ستتم بغطاء عربي وإقليمي وتحظى بدعم -وربما بمشاركة دولية كما حدث حينما تم تشكيل تحالف دولي لمحاربة تنظيم داعش-، وبعدها يعلن الأسد انتصاره النهائي على الإرهاب وتتقاسم إيران وروسيا الحصص لتثبيت ملكية كل منهما على المناطق الخاضعة لنفوذهما بغطاء شرعي من الحكومة المنتصرة..
هذا السيناريو/الحلم، هو منتهى رغبة النظام ومشتهاه، لأن الانتقام من السوريين بقتلهم وإبادتهم لا يشفي غليله، فهو يعمل اليوم على خطة بعيدة المدى هدفها ألا يكون للسوريين مستقبل في بلدهم لعشرات، وربما لمئات السنين، فضلاً عن قتل حلمهم بالحرية الذي يعده اليوم مشروعاً استوفى عوامل نجاحه بعد المباركة العربية التي تجسدت في حضور الأسد لقمة جدة، وبات لا بد من الانتقال إلى المرحلة التالية.
ولكن احتمال فوز أردوغان، يفرض على النظام أن يضع السيناريو البديل، والذي سيحاول أن يصل به إلى نفس النتيجة حتى وإن اختلفت الوسائل، فتركيا أردوغان مشغولة اليوم بعملية التطبيع مع النظام ربما كورقة انتخابية، وربما بسبب المتغيرات العميقة في السياسة الدولية والتي قد تدفع بتركيا لإكمال عملية التطبيع حتى بعد انتهاء الانتخابات.
سيقدم النظام كل التنازلات لتركيا ليس من أجل استرداد المناطق الخارجة عن سيطرته، والتي لا تهمه في شيء، بل من أجل مشروعه الانتقامي من ناحية، وكذلك لاعتقاده بأن الاعتراف الإقليمي بشرعيته سيؤدي إلى اعتراف دولي
يشترط النظام على تركيا قبل الانتخابات الخروج من المناطق التي تسيطر عليها في سوريا معتقداً أنه بذلك يعرقل استخدام أردوغان للورقة السورية في حملته الانتخابية، ولكنه سيغير اللهجة مباشرة في حال فوز أردوغان لتكون لغة غزل أكثر وضوحاً من تلك التي استخدمها مع السعودية وأحدث من خلالها خرقاً واسعاً ومناقضاً بالمطلق لخطابه القديم الذي كان يصنف السعودية على أنها وهابية إرهابية، وفي غمضة عين بات يرى في السعودية الدولة الشقيقة والحبيبة، ولهذا سيحاول النظام أن يحصل من تركيا أردوغان على ما كان يحلم بالحصول عليه من تركيا بلا أردوغان، فلديه الضغط الروسي، وورقة الأكراد، ولديه الظرف الملائم في تركيا ما بعد الزلزال، وبالطبع سيقدم النظام كل التنازلات لتركيا ليس من أجل استرداد المناطق الخارجة عن سيطرته، والتي لا تهمه في شيء، بل من أجل مشروعه الانتقامي من ناحية، وكذلك لاعتقاده بأن الاعتراف الإقليمي بشرعيته سيؤدي إلى اعتراف دولي، أو بالحد الأدنى ضمان الصمت الدولي عن مشروع جرائم الإبادة التي يرغب بارتكابها.
النظام الذي سيطر على سوريا متنكراً بالزي الوطني والقومي، متنكراً بقناع العروبة، هو ذاته الذي تنكر بقناع محارب الإرهاب وهو ذاته الذي يتنكر اليوم بقناع المهرج مرة والأراكوز مرة أخرى، هو النظام الذي لم يكن لديه مشروع في يوم من الأيام سوى البقاء في السلطة، نظام لا يتعامل مع السياسة الدولية إلاّ على أنها حفلة تنكرية مسموح فيها سفك الدم وبيع الوطن والارتهان للمحتلين واللعب على كل الحبال، والتبعية المطلقة مع ادعاء السيادة والاحتفاظ بحق الرد على الضربات الإسرائيلية.
حفلة تنكرية يتمنى النظام أن تستمر للأبد ليبقى مختبئاً خلف القناع أو خلف مجموعة الأقنعة القابلة للتبديل حسب الطلب، حفلة تنكرية مسموح فيها كل شيء إلا ظهور الحقيقة.