لا تكفّ الماكينة الإعلامية لنظام الأسد عن صناعة الزيف المتعمد وبالطريقة ذاتها التي اعتمدتها منذ بدء المظاهرات المطالبة بالحرية في العام ٢٠١١، فمنذ ذلك الحين تحول إعلام النظام إلى مثال ناصع للكذب والمداورة والإنكار والتزوير المفضوح.
ورغم أنه لم يعرف المصداقية قبل الثورة، إلا أن أكاذيب إعلام النظام ازدادت وقاحة بعد اندلاع الثورة، وبعد مضي أكثر من عقد، إلا أن صناعة الكذب لا تزال تمضي بذات الطريقة الساذجة والتي تعتمد على القوة والقمع في إرغام المواطن على الاقتناع بصدقها وشفافيتها وتراهن على ذعره وخوفه من توجيه أي انتقاد لتلك الأكاذيب أو التشكيك بها مهما كانت مكشوفة.
لو تعلمت ماكينة التزوير تلك كيف تصنع كذبة مقنعة بشكل متدرج لكانت اليوم أقرب إلى الاحتراف نتيجة الخبرة الطويلة في الكذب، ولكن من سوء حظ النظام أن ملمعيه لا يجيدون صناعة الكذب المقنع، وربما لا يجدون ذلك أمراً هاماً، ولذلك فهم يكشفون عن نياتهم منذ اللحظة الأولى من خلال المبالغة والتهويل وقطع الصلة تماماً مع الواقع وابتعادهم عن أي أسس منطقية.
وتلعب الهوة الواسعة بين الحقيقة التي يعرفها السوريون جميعاً والصورة البديلة المختلقة للحقائق البديلة التي يحاول النظام أن يكرسها، الدور الأكبر في كشف عملية التزوير، فالقائمون على تلك العملية يذهبون للأقصى وهم يخطبون ود النظام في سعيهم لنيل رضاه فيتورطون في قلب المفاهيم بصورة كلية ولا يولون أي اهتمام لانكشاف كذبهم مدعومين بكمية لا متناهية من الوقاحة والصفاقة التي باتت السمة المميزة لهم، ولذلك فهم لا يترددون بقلب حالة الفقر التي يعيشها المواطن السوري إلى حالة رفاهية، وحالة الذل إلى حالة كرامة، وهكذا.
من جملة تلك الأكاذيب التي تهدف إلى إنشاء حالة دعائية يريد النظام من خلالها غسل سمعته وخديعة الرأي العام المحلي والدولي، تقرير تلفزيوني مصور قدمه تلفزيونه الرسمي، الأحد الماضي، على قناته الرئيسية وتناول من خلاله سجن طرطوس، وركز بشكل خاص على ما أسماه المركز الثقافي داخل السجن، حيث يتاح للسجناء القراءة والمطالعة وبناء مستوى ثقافي رفيع خلال قضاء محكومياتهم.
ومن أجل دعم تلك الأكذوبة بالأدلة، عرض إعلام النظام في تقريره صوراً للمكتبة الضخمة الموجودة في ذلك السجن والتي تحتوي على مئات من الكتب، وعرض مقابلات مع السجناء الفرحين بتلك المبادرة، وهم بطبيعة الحال من مرتكبي الجرائم الجنائية وهؤلاء ليس لديهم أي اهتمام بالقراءة، فإذا كانت نسبة القراءة لدى السوريين الطلقاء ولدى الكثيرين من المحسوبين على المثقفين متدنية عموماً، فهل سيكون لدى أصحاب الميول الإجرامية رغبة بالقراءة والمعرفة؟
من جملة الأكاذيب التي يحاول من خلالها النظام غسل سمعته وخديعة الرأي العام المحلي والدولي، تقرير تلفزيوني مصور قدمه تلفزيونه الرسمي يروج لاهتمامه بالسلامة الذهنية والفكرية للسجناء، التقرير سلط الضوء على ما أسماه المركز الثقافي داخل السجن.
لا يتوقف الأمر عند القراءة المتاحة للسجين، فالتقرير التلفزيوني المشار إليه يحاول تكريس حالة ثقافية شغوفة لدى الموقوفين، يقابلها حرص شديد من قبل السجانين على الصحة الذهنية لأولئك السجناء، فثمة مشرفون يساعدون السجناء على اختيار الكتب المناسبة وشرحها لهم ومناقشتهم في مضمونها، وهؤلاء المشرفون هم السجانون أنفسهم الذين تحولوا أمام الكاميرا إلى أشخاص في منتهى الرقي والإنسانية، وتحولوا أيضاً إلى محاضرين ومثقفين، حيث تعقد الندوات الثقافية بإشرافهم، متجاوزين الصورة النمطية للسجان التي لم تتغير بل ازدادت توحشاً وعنفاً في السنوات السابقة.
يتيح سجن طرطوس أيضاً لنزلائه -حسب زعم التقرير- إمكانية متابعة الدراسة والإشراف عليها وتهيئة المناخ المناسب والنموذجي للسجين الطالب لتحقيق حلمه ونيل الشهادات الدراسية كالابتدائية والإعدادية والثانوية العامة، وحتى الشهادات الجامعية ويقوم بتحفيز السجناء وتشجيعهم على القراءة من خلال جملة من المغريات أهمها الزيارات الإضافية التي تخصص لهم كمكافأة، غير تلك الزيارات الاعتيادية التي تحق لهم بحكم قانون السجن.
وإذا تأملنا التقرير جيداً، فسنجد أن تلك المكتبة القابعة في صالة السجن ليست سوى ديكور وضع على عجل وأنها ستزال بعد انتهاء تصوير التقرير، فالمكان الذي وضعت فيه المكتبة، وطريقة رصف الكتب، وكذلك قاعة المحاضرات التي تم عرضها تثبت جميعاً أنها كانت معدة فقط من أجل التصوير.
لم يكن النظام يوماً حريصاً على الحالة الثقافية للسوريين خارج السجون فما بالك بمن هم داخلها، بل إن القراءة في سوريا مصنفة كـ "مسجل خطر"، القراءة بحد ذاتها تهمة إلا إذا اقتصرت على الكتب التي يوافق عليها النظام، وكثيراً ما قادت الثقافة في سوريا أصحابها إلى السجون والمعتقلات، فالنظام السوري هو أكثر الأنظمة التي تعتقل أصحاب الرأي، ولهذا فمن المستغرب أن يكون حريصاً على تسهيل الخدمات الثقافية داخل السجون، صحيح أنه يشرف على نوعية الكتب التي يجلبها للسجناء -إن صدقت روايته في ذلك-، ولكنه يخشى من تفشي عادة القراءة بشكل عام لدى السوريين ويخشى أن تنقلب إلى حالة بحث معرفي ستعرقل بلا شك قدراته على إقناع الجمهور المثقف بروايته وشعاراته وأكاذيبه.
إن النظام الذي كرس جل جهده لتجهيل السوريين وتجريف البنية الثقافية بالكامل، النظام الذي يخاف من المثقف أكثر من خوفه من المسلح، النظام الذي يجد في المعرفة والثقافة أكبر خطر على وجوده، لن يقدم على تقديم الخدمات الثقافية أو التشجيع على اكتساب المعرفة في سوريا، ناهيك عن سجونها..
منذ عهد الأسد الأب كان ديدن المخابرات السورية وهاجسها الرئيسي مراقبة أية كلمة تخرج من أفواه السوريين، ومراقبة الكتب والكتّاب، لا يثق النظام حتى بكتابه ومثقفيه، ولذلك فهو يراقب صحفه التي يشرف أبواقه أنفسهم على إصدارها، ويتابع أية مطبوعة وأي نشاط ثقافي وينشغل بمراقبته ومراقبة محتواه أكثر من انشغاله بمراقبة الحدود مع إسرائيل، لم يتوقف النظام يوماً عن ملاحقة المعرفة والتعامل معها على أنها تهمة بحد ذاتها، فمن أين جاءه فجأة هوس الحرص على تثقيف السجناء الجنائيين؟
القائمون على عملية تزوير الحقائق لدى نظام الأسد يذهبون إلى أقصى حد وهم يخطبون ود النظام في سعيهم لنيل رضاه فيتورطون في قلب المفاهيم بصورة كلية ولا يولون أي اهتمام لانكشاف كذبهم مدعومين بكمية لا متناهية من الوقاحة والصفاقة التي باتت السمة المميزة لهم، ولذلك فهم لا يترددون بقلب حالة الفقر التي يعيشها المواطن السوري إلى حالة رفاهية، وحالة الذل إلى حالة كرامة، وهكذا.
لقد حول الأسد سوريا كلها إلى سجن كبير، وهو لا يولي اهتماماً لمآسي المواطنين/السجناء، ولا يسعى لتأمين أي نوع من الخدمات الأساسية لهم، ولا تهمه الحالة الاقتصادية المتردية التي يعيشها السوريون الخاضعون لسيطرته، ولا يهتم لموت السوريين وهجرتهم، فهل من المعقول أن يهتم بالشأن الثقافي للسجناء الحقيقيين القابعين في سجونه الصغيرة؟
فضلاً عن ذلك، فإن عموم السوريين اليوم باتوا أبعد عن القراءة من أي وقت آخر، وأكثرهم قطع علاقته تماماً بالكتاب بمن فيهم أولئك الذين لديهم شغف حقيقي بالقراءة، فالسوري الذي يحارب اليوم من أجل لقمة عيشه، لن يجد تلك الرفاهية التي تتيح له شراء الكتاب، وإن كان يستطيع شراءه فلن يكون لديه المزاج الكافي للقراءة في ظل الوضع المزري والكآبة التي تسيطر على جميع السوريين، وفي ظل بحثهم عن توفير مستلزمات الحياة الأساسية والتي أصبحت من المهام الشاقة لدى السوري.
لقد باتت عمليات التجميل هاجساً أساسياً لدى نظام الأسد، ولذلك نراه مرة يجري عملية "شفط" لدهون الجريمة، وأخرى يحقن وجهه الممتلئ بدمامل القتل بـ "بوتيكس" العفة، ومرة وهو يستبدل أسنان الذئب بابتسامة هوليوود، باختصار إنه يحاول تحويل قبح مضمونه إلى جمال خارجي مصطنع، ولكنه يبدو كمن يشارك في حفلة تنكرية يخفي فيها حقيقته بينما يعلم الجميع أنه متنكر، وما تمثيلية المركز الثقافي في سجن طرطوس إلا جزء من تلك الحفلة التنكرية المستمرة التي لم يستطع النظام من خلالها إخفاء شخصيته الحقيقية، بل لم يسفر عن محاولاته تلك سوى المزيد من وضع نفسه موضع الشبهة وتكريس حقيقته التي يحاول التنكر لها مما يثير السخرية والاستهزاء.
لا يزال النظام يراهن على إعادة تدويره من قبل المجتمع الدولي، ويعتقد أنه اقترب من ذلك كثيراً متناسياً ملفه المتخم بالجرائم، ومتناسياً أنه لا يزال على رأس السلطة باعتباره سلطة الأمر الواقع، وليس بسبب نجاح تمثيلياته وأكاذيبه.
إن جرة ماء لا يمكنها تحويل مياه البحر المالحة إلى مياه عذبة، وبالمثل فإن مكتبة يضعها النظام في أحد سجونه -إن كانت حقيقة- لا يمكن أن تغطي على جرائم الإبادة التي ارتكبها خلال اثني عشر عاماً، ولا على الانتهاكات التي لا يزال يرتكبها يومياً بحق السوريين جميعاً.