حسن نصر الله في سوريا

2024.09.30 | 05:35 دمشق

آخر تحديث: 30.09.2024 | 05:35 دمشق

حسن نصر الله
+A
حجم الخط
-A

كان الأمين العام الشهير لحزب الله اللبناني، يحظى بإجماع ظاهر بين السوريين عندما كان الانقسام حوله على أشدّه في بلده خلال حرب تموز عام 2006 ضد إسرائيل، وذلك قبل أن ينحاز الحزب إلى النظام بعد انطلاقة الثورة السورية وينخرط بقوة في دعمه عسكرياً، فيصبح حليفاً حميماً لفريق من السوريين من مؤيدي بشار الأسد وخصماً كريهاً لجمهور الثائرين عليه الذين اكتووا بنيران الحزب.

وفي كل الأحوال حضر "سماحة السيد"، كما يقول وصفه التبجيلي، في أنفس السوريين وأذهانهم أكثر مما حضر معظم زعمائهم والمؤثرين فيهم خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وعلى إيقاع ظهوراته الإعلامية، الكثيرة نسبياً، تشكَّل أو تعزَّز جزء معتبر من وعيهم في المجال السياسي.

بشأن فلسطين، التي شغلت موقعاً مركزياً من حضور نصر الله، لم يكن على "الأمين العام" سوى أن يضخ دماً جديداً في شرايين قضية تحتل لدى السوريين مكانة محورية من الأساس، مقدّماً، لأجيال لم تعايش صعود جمال عبد الناصر، نسخة محدّثة منه، ملتحية وهادئة وساخرة، لكنها أيضاً حماسية وجذرية ومتوعّدة بعنف.

على أرضية حياة سياسية لبنانية مترهلة وفاسدة وخارجة من حرب أهلية أتيح للمعمَّم، الذي كان شاباً مفعماً في أول ظهوره، الانتقال من إدانة الطبقة السياسية إلى احتقار السياسة كلياً، واللعب شبه المكشوف في تشكيل المجلس النيابي والحكومات والتدخل في رئاسة الجمهورية..

وبخلاف القائد المصري للقومية العربية، الذي كان رئيس دولة في نهاية الأمر، كان نجم المقاومة الإسلامية مرتاحاً أكثر كزعيم حزب، ثم دويلة، ما منحه مساحة أكبر من العربدة اللفظية والاستخفاف بالقانون الدولي والتغني بتهمة "الإرهاب"، مما كان له وقع طرب في آذان كثير من مشاهديه السوريين وغيرهم.

وعلى أرضية حياة سياسية لبنانية مترهلة وفاسدة وخارجة من حرب أهلية أتيح للمعمَّم، الذي كان شاباً مفعماً في أول ظهوره، الانتقال من إدانة الطبقة السياسية إلى احتقار السياسة كلياً، واللعب شبه المكشوف في تشكيل المجلس النيابي والحكومات والتدخل في رئاسة الجمهورية، معزَّزاً الإيمان بأن القوة/ السيف "أصدق أنباء" من الانتخابات والتوافقات، وهو ما كان يجد أصداء بديهية في صدور أجيال من السوريين ترعرعت في ظل دكتاتورية حافظ الأسد ولا تتذكر سوابق عن الحكم الديمقراطي.

غير أن هذا التكوين المسموم، الذي أسهم حسن نصر الله في استنهاضه وتعميقه لدى السوريين غير المحصّنين، لم يكن كل عدّة الزعيم اللبناني الإيراني الذي امتلك من مقومات النجاح ما مكّنه من السير بحزبه، وحاضنته الطائفية، في طريق بدا ظافراً لأكثر من ثلاثة عقود، في حين غابت هذه العوامل عن تركيبة معجبيه السوريين، بمن فيهم المنقلبون عليه بخيبة أمل بعد وقوفه ضدهم. وخاصة أمراء الحرب الثوريين الذين وجدوا أنفسهم على رأس مناطق محدودة سعوا إلى حكمها كإقطاعة أو دويلة.

ورغم عدائهم لحزب الله فقد حافظوا على إعجابهم بتجربته وعدّوها مصدراً للإلهام، لا سيما مع الافتقار إلى تجارب ما دون دولتية ناجحة أخرى في المنطقة، وبوعي أو بغير وعي استعار هؤلاء من نصر الله مُروقه عن القانون الوطني والدولي، واستخفافه بالسياسة وأهلها، وإيمانه بالقوة وقراءته العالم والعلاقات الداخلية والخارجية على هذا الأساس، لكنهم أغفلوا العوامل التي أدت إلى "نجاح" نصر الله رغم "عيوبه" تلك.

فمن جهة أولى شُغِف الرجل، الذي صعد من قاعدة حزبه إلى قمته، بدوره وقضيته بطريقة "ملأت عليه كيانه" فأصبحت غاية وجوده لا وسيلة للمكاسب المادية أو المعنوية. فلم يُعرف عنه ميل إلى الرفاه أو مراكمة ثروة شخصية، بخلاف مقلّديه الذي عدّوا تصدّرهم سبيلاً للتمتع بما تتيحه السلطة، وإن كانت محلية ومحدودة جغرافياً، من تكاثر في الرجال والأموال.

ورغم الشخصنة الشديدة التي كانت تتراكم حوله حرص "الأمين العام" على الإشارة إلى "إخوانه" في قيادة الحزب كلما أتيحت الفرصة، والإشادة بهم بلغة تفخيمية حينما يُقتل أحدهم، محاذراً من ارتداء عباءة القائد الملهم والزعيم الأوحد رغم قابلية الظروف لتحقيق ذلك.

وامتد الأمر إلى خارج الحزب فحرص على إظهار الاحترام لحلفائه، وقد تجلى ذلك في طريقة تقديمه لشريكه في الثنائي الشيعي، زعيم حركة أمل الآيلة للهدم، رئيس مجلس النواب نبيه بري، وكذلك في إبداء التقدير الشكلي اللازم للحزب الذي اقتنصه من الوسط المسيحي الماروني، التيار الوطني الحرّ وقائده الجنرال المعتدّ ميشال عون.

وأخيراً في نسبة الانتصار الذي حققه معسكر النظام في سوريا إلى "الجيش السوري" بقيادة بشار الأسد الذي كان نصر الله لا يفوّت فرصة لامتداح شجاعته وصموده وحكمته، على حدّ قوله، متجنباً إثارة أي مخاوف لدى الرئيس المهجوس بعظمته للنظام المهتزّ، مكتفياً بدور "الصديق" الذي أدّى ما عليه من واجب الوفاء.

يكشف الملف الأخير، أي العلاقة مع إيران، جانباً آخر من حذر نصر الله وانضباطه الذاتي، ففي حين كان يقدّم نفسه كجندي مقلّد لمرجعه المذهبي وقائده السياسي والعسكري، المرشد علي خامنئي؛ فإن شهادة أحد كبار ضباط الحرس الثوري الإيراني ترسم لنا صورة مختلفة عن موقع نصر الله في السياسة الخارجية الإيرانية..

ومرّة أخرى بخلاف مقلديه السوريين، السكارى بسلطتهم الضيقة، لم يتهاون نصر الله أبداً في أمر "الحاضنة" رغم شغفها المتزايد به، فحرص على عدم الانفصال عنها شعورياً واجتماعياً ورمزياً، وعلى رعاية شؤونها الفعلية مستعيناً بالإمكانات المادية الإيرانية التي كانت مفتوحة أمامه.

ويكشف الملف الأخير، أي العلاقة مع إيران، جانباً آخر من حذر نصر الله وانضباطه الذاتي، ففي حين كان يقدّم نفسه كجندي مقلّد لمرجعه المذهبي وقائده السياسي والعسكري، المرشد علي خامنئي؛ فإن شهادة أحد كبار ضباط الحرس الثوري الإيراني ترسم لنا صورة مختلفة عن موقع نصر الله في السياسة الخارجية الإيرانية.

ففي مذكراته "رسائل الأسماك" يقول الجنرال حسين همداني إن خامنئي كلّفه بوضع خطة استراتيجية للتدخل في سوريا فأعدّها وفق خمسة قطاعات؛ عسكري وأمني وسياسي واقتصادي وثقافي.

وبعد أن اطّلع عليها قاسم سليماني، قائد قوة القدس، جرى تكليفه بالسفر إلى بيروت وعرضها على نصر الله الذي كان يشرف، وفق توجيهات خامنئي، على "السياسات الكلية والأساسية للمقاومة" على حد تعبير همذاني الذي أمره سليماني: "اذهبوا وسلّموا هذه الخارطة إليه؛ فإن وافق عليها فابدأوا بتنفيذها"، وهكذا انطلقت الجريمة الإيرانية المنظمة في سوريا.