حرب غزة.. لماذا يُختلَف عليها؟

2024.06.21 | 06:15 دمشق

آخر تحديث: 21.06.2024 | 06:15 دمشق

مقتل وجرح العشرات من الفلسطيني في هجوم إسرائيلي "غير مسبوق" على مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، 8 حزيران/يونيو 2024 (الأناضول)
+A
حجم الخط
-A

تدلّ نتائج استطلاعات الرأي الصادرة عن مراكز موثوقة على تأييد ملحوظ باقٍ (بعد كلِّ ما فعلته إسرائيل في قطاع غزة) في صفوف الفلسطينيين لعملية "طوفان الأقصى"، إلا أنها تكشف أيضًا عن تبايُن فلسطيني في تقييمها، فلا إجماعَ عليها، وعلى خيار المقاومة، ولا سيما حين ترتفع الكُلَف إلى درجات لا تُطاق. يمكن إعادة ذلك إلى عاملين، الأول: النتائج التدميرية، والثاني: الاختلافات الأيديولوجية.

يُظهر استطلاع الرأي الأخير الذي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمَسْحيَّة (وهو مؤسسة أكاديمية علمية بحثية مستقلة، غير ربحية، وغير حكومية، مقرُّه في مدينة رام الله)، نشره على موقعه في 12 حزيران (يونيو) 2024، أنَّ "الرأي العام الفلسطيني يدعم المقاومة في معركة "طوفان الأقصى". هذا الاستطلاع، الذي أجري ما بين 26 مايو/أيار و1 يونيو/حزيران 2024، أظهر أن ثلثي الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة يؤيِّدون السابع من أكتوبر/تشرين الأول. كما أن 80% يعتقدون أنه وضَع القضية الفلسطينية في بؤرة الاهتمام العالمي، ونصفهم يتوقَّع انتصار حماس وعودتها لحكم غزة بعد الحرب.

وبقي، بحسب الاستطلاع، تأييد للمقاومة مرتفعًا. وأما فيما يتعلق بالجهة التي تستحق اللوم، فيظهر أن 64% يلومون الاحتلال الإسرائيلي على معاناة سكان القطاع، و22% يلومون الولايات المتحدة، و6% يلومون السلطة الفلسطينية، و8% فقط يلومون حماس.

ومن المؤشِّرات الواضحة على عُمْق تأييد خيار المقاومة أن نتائج الاستطلاع السابق "تشير إلى ارتفاع قدره ثماني نقاط مئوية في تأييد العمل المسلح، (...) يأتي الارتفاع في تأييد الكفاح المسلَّح من قطاع غزة، حيث ترتفع هذه النسبة بمقدار 17 درجة مئوية".

ولا بدَّ لتفسير هذه التوجُّهات من ملاحظة عوامل الثبات والتغيُّر، فمن المعروف أن الرأي العام لأيِّ شعب معرَّض للتغيُّر المستمر، وفق تطوُّرات الأحداث الواقعية، ووفق تأثير وسائل الإعلام، ولكنّ ثمة عاملًا ثابتًا، ينبع من الجوانب الفكرية والقناعات الدينية والأيديولوجية.

الحالة الفلسطينية مثل أشجار قد تتشابك بعضُ فروعها، ولكنها لا تتماثل، وهي مِن أصول مختلفة متغايرة، وهنا اختلاف في الدرجة، يتَّسع ليكون اختلافًا في الكَيْف، بين مَن ينبع تكوينُه من استبقاء الحياة، ولو ضاقت، وتضيق، فيما هو لا يُسقِط من أمانيه، الخلاصَ من المحتل، لكنه يستجدي الحياة. فما أدواته؟ وعلام يعوِّل، أمام صراع وجودي، احتدم، ولا هوادة فيه؟

ثمة إخفاق فلسطيني، أفضى إلى اتفاقية أوسلو، كوَّنَ صيرورة سيكولوجية، ثقافية، لا يسعفنا منطقُها كثيرًا أمام التحديات الراهنة، مِن تعويل أكبر من اللازم على الورقة الدولية، بالرغم من بعض التطوُّرات، بانضمام دول أوروبية ليست بالغة التأثير، للدول المعترفة بالدولة الفلسطينية، إلا أن تسارُع وتيرة الصراع، واستقرار الانحياز الأميركي، وصموده، أمام تطورات بنيوية عَبَرتْها دولة الاحتلال؛ إلى مرحلة جديدة، لا تُخفي مرجعياتِها الدينية التوراتية العنصرية، لتسقِط بذلك المرجعياتِ القانونية الدولية، وتتنصَّل من الاتفاقات المبرَمة، أو مِن أهمِّ بنودها؛ مع منظمة التحرير، في سعي حكومة نتنياهو المعلَن لإضعاف السلطة الفلسطينية، أو حتى العمل على انهيارها، بحجْب أموالها، وبأساليب أخرى، عسكرية، بالاجتياحات اليومية والليلية لمدن الضفة وقراها ومخيَّماتها، وما يكون فيها من قتْل متكرِّر، وإعدامات مستفزِّة، واستيطانية، بشرعنة بؤر استيطانية لم تكن قانونية في نظَر إسرائيل نفسها، مدَّعيةً أنها تعاقب السلطة على لجوئها إلى المحاكم الدولية، وغير ذلك من ممارسات السلطة التي لا تعجب إسرائيل، حتى تصل إلى ما يدرَّس في كتب المناهج الفلسطينية.

وكذلك استهتار دولة الاحتلال باتفاق السلام مع الأردن، في تكثيف اقتحام المسجد الأقصى، وتهديد وضعْه المنصوص عليه، فيما يُدرَج تحت "الوصاية الهاشمية"، ولم تكن مصر بعيدة عن هذا الاستهتار، في معاهدة كامب ديفيد، فيما يتعلق بالسيطرة الاحتلالية على معبر رفح.

هذا من حيث انزياحات إسرائيل، أو انقلاباتها، وأما من حيث الحُكْم على الحرب الدائرة وفق نتائجها، فهذا الحكم مبكِّر؛ إذ برغم الخسارات الفادحة التي ألمَّت بالفلسطينيين، بعامَّة، وبفلسطينيي غزة، بخاصَّة، إلا أن الحرب لم تنتهِ، والنتيجة النهائية لم تظهر بعد. إذ قد نستدعي المثال الأفغاني وسيلةَ إيضاح، فحين غزت أميركا أفغانستان بقوة لا طاقة لحركة طالبان بها، اختارت الحركة حلَّ نفسها، ثم بدأت حربًا غير نظامية ضد الاحتلال الأميركي ، ولم يكن كلُّ ما راكمته واشنطن هناك مدَّة عشرين عامًا من وجود عسكري، وبناء حُكمٍ تابعٍ دليلَ نجاح، أو علامةَ سيطرةٍ، وإخضاع.

"ثمة إخفاق فلسطيني، أفضى إلى اتفاقية أوسلو، كوَّنَ صيرورة سيكولوجية، ثقافية، لا يسعفنا منطقُها كثيرًا أمام التحديات الراهنة، مِن تعويل أكبر من اللازم على الورقة الدولية."

فيما يتعلَّق بالحُكْم على نتيجة الحرب، يمكن القول إن الدمار الواسع، برغم فظاعته، بحدِّ ذاته، إلا أن دولة الاحتلال لا تريده فقط لذاته، وإنما، ولعله الأهم، تتوخّى منه نتائج تثبِّتها بعده، منها تهجير أكبر عددٍ ممكن من أهل غزة. ومنها قتْلُ روح المقاومة، ودفْع الفلسطينيين إلى اليأس والشعور بالهزيمة؛ ليدفعهم ذلك إلى تغيير أفكارهم، التي يصنِّفها الاحتلال متطرِّفة. ومن ثم الانفضاض، أو التمرُّد على حركة حماس، وحركات المقاومة. ومن النتائج التي حاول الاحتلال تثبيتها اقتطاع مناطق ومساحات من القطاع، كما يقول عن محور فيلادلفيا، أو إقامة منطقة عازلة بين القطاع والمستوطنات الإسرائيلية.

فيما يتعلَّق بالتهجير، لا بدَّ أن معدَّلاته ستزيد، لزيادة دواعيه، وقد كانت قبل الحرب، فكيف بعد تقويض مقومات الحياة الاقتصادية والتعليمية وغيرها؟ لكن من المؤكَّد أن القطاع يبقى عامرًا بأعداد تكفي لوجود فلسطيني فاعل، فلن يرحل جميع أهل غزة، ولو ازدادت صعوبة الحياة.

لا يمكن الاستخفاف بمعاناة أهل غزة، والمآسي الإنسانية التي ضجّ لها العالم، من غربه إلى شرقه، لكن الخطاب السياسي لا يتأسس فقط على ذلك الجانب، إذ عواطفنا الصادقة؛ مِن خوف وحزن وتفجُّع، لا تصلح أن تعمَّم لتكون مادَّة بناء، لشعب، أو أمة. قد تصلح هذه العواطف الإنسانية، شريحةً، في عمل أدبي، لكنها في السياق الواقعي، الصارم، بطبيعته، عامل وهْن، وتوهين. هذا لا يعني أن الصراعات تُخاض، فقط، بالشعارات البطولية، أو حتى بقيم أخلاقية كالشجاعة والنخوة والنجدة، إذ لا بد من عُدَّة، ولا بد من توازنات قوة، أو توازنات ردع وإيلام، ولا مناص من معارك سياسية تُخاض إلى جانب المعارك العسكرية، وهنا لا مفرَّ من الاعتراف بفارق القوة الكبير بين دولة مدعومة عسكريًا واقتصاديًا وإعلاميًا، وغير ذلك، من أكبر دولة في العالم، أميركا، على الأقل، ومن شعب محاصَر، بمجموعاته المسلحة تسليحا محدودًا.

ولكن الخيار الآخر، السلمي الدبلوماسي، أثبت عجزه، ونحن في مرحلة لم يعد الصراع فيها مبيَّتًا، أو كامنًا، بل انطلق من عقاله، على نحو يهدِّد الكلَّ؛ في الضفة والقدس، كما في قطاع غزة، وينال من الجميع؛ ممَّن حمل السلاح، وممَّن هو صامد في أرضه، أو ناشط في أرضه، وراعٍ لمصالحه، التجارية، أو الزراعية، كما نشهد بين الحين والحين من اعتداءات همجية يرتكبها المستوطنون في الضفة الغربية والقدس، بحماية جيش الاحتلال.

لذلك لم يحتجْ رجل الشارع العادي إلى أسبابٍ دينية أو أيديولوجية، مع أننا لا ننفي أثرَها؛ كي يتحوّل عن النهج السلمي، بعد أن مُنِح فرصة طويلة، لم تحدِث أيَّ تغيرات نوعية، بل فاقمت الاحتلال، منذ اتفاق أوسلو، والتزام السلطة الفلسطينية باستحقاقاته التزامًا جوهريًّا دقيقًا، غير مبالية بنشوء طبقة سياسية إسرائيلية نافذة، تتنصَّل منه، وتعمل على إعادة صياغة الوجود الفلسطيني، إلى حُكْمٍ محلّي تام، تحت سيادة الاحتلال المباشرة. فهل، بعد هذا الانقلاب، يضمن مَنْ يستجدي حياةً مسالمةً مثلَ تلك الحياة؟