يستغرب المرء كيف استطاعت قوات سوريا الديمقراطية " قسد " التي تسيطر عليها قوات حماية الشعب الكردي طرد داعش من أغلب مناطق نفوذها وتواجدها، ولم يعد باستطاعتها حسم هذا الأمر في المربع الأخير من الضفة اليسرى لنهر الفرات وتحديداً المنطقة الواقعة بين " بلدة هجين " والحدود السورية العراقية شرقي محافظة دير الزور.
مثل هذا الاستغراب يُثيرُ أسئلةً مشروعةً عن نية الولايات المتحدة الأمريكية وتحالفها الدولي في الانتهاء من هذا الجيب الذي تشغله داعش، فميزان القوى العسكرية هو أكثر من راجحٍ لمصلحة التحالف الدولي وذراعه الأرضية " قسد "، ومع ذلك يبقى هذا الجيب في حالة حربٍ على صورة كرٍ وفرٍ بين " قسد " من جهة وداعش من جهة أخرى. هذه الحال تستدعي القول إن أمر هذا الجيب الأخير يرتبط باستراتيجية أمريكية حيال الصراع في سوريا لم تتضح ملامحها النهائية بعد.
الأمريكيون الذين قالوا إن هدفهم في سوريا هو محاربة الإرهاب وعدم السماح لداعش بالعودة، كانوا يقصدون طرد داعش
ليس من المنطقي أن يكون هدف الولايات المتحدة هو القضاء على داعش فحسب، بل إن الأمريكيين كانوا يعيدون حساباتهم السياسية حيال الملف السوري
وتصفيتها نهائياً من الأراضي السورية والعراقية معاً، وكان من المنطقي أن تتمّ عمليات تصفية داعش من سوريا والعراق في آنٍ واحد. ولكن ذلك لم يكتمل بصورته السورية في وقت تمّ إنجازه بصورته العراقية.
عدم إنجازه في سوريا يؤشر إلى أمور متعددة متشابكة يبرز في مقدمتها عدم الانتهاء من بلورة أخيرة لاستراتيجية الولايات المتحدة في هذا البلد. فليس من المنطقي أن يكون هدف الولايات المتحدة هو القضاء على داعش فحسب، بل إن الأمريكيين كانوا يعيدون حساباتهم السياسية حيال الملف السوري من أجل الوصول إلى مرحلة الإمساك بخيوط لعبة الصراع والحل السياسي له.
الأمريكيون لم يريدوا حسم وضع داعش في جيبها الأخير بين بلدتي هجين والباغوز، فالانتهاء من هذا الجيب يعني بالضرورة الانتقال إلى مهام سياسية وعسكرية أخرى تخصّ الصراع السوري، فهم يدعون جيب داعش وهذا صار واضحاً، إذ إنهم يعرّضون هذا الجيب للاستنزاف التدريجي، ريثما تبدأ عمليات إخراج إيران وميليشياتها من الأراضي السوريا، فإخراج إيران من معادلة الصراع السوري يعني تبدل ميزان القوى العسكرية والسياسية لغير مصلحة التحالف الروسي الإيراني مع النظام الأسدي.
كذلك فإن الأمريكيين الذين استخدموا قوات سوريا الديمقراطية في الصراع مع داعش كانوا يرسمون لهذه القوات دوراً صغيراً دون آفاق سياسية واضحة وحقيقية لها، أي دون تمكينها من تمرير أجندتها بالسيطرة على مساحةٍ من الأراضي السورية تدخل من خلالها في مفاوضات لإقرار مشروع دولةٍ فيدرالية.
الأمريكيون يدركون تماماً أهمية منطقة شرقي الفرات الغنية بالمياه والثروة النفطية والزراعية من ناحيتين، الناحية الأولى غنى المنطقة بالثروات، والناحية الثانية حساسية وضع هذه المنطقة أمنياً بالنسبة للدولة التركية.
هذه الرؤية توضّح أن الأمريكيين هم من يدير من الخلف حرب المواقع بين داعش وقسد، وهم لا يريدون الآن الانتهاء من هذا الجيب. كذلك هم لا يريدون أن تقوم قوات سوريا الديمقراطية بالتجذر في هذه المنطقة ذات الغالبية العربية المطلقة، ونقصد بهذا الكلام محافظتي دير الزور والرقة.
إذاً هناك هوّة كبيرة بين الاستراتيجية الأمريكية واستراتيجية قوات سوريا الديمقراطية، هذه القوات التي تجد نفسها مجرد ذراع عسكرية لأهداف سياسية حصادها الأخير من هذه الأهداف سيكون غير برنامجها الفدرالي، وغير دورها السياسي في سوريا ومحيطها الإقليمي (تركيا والعراق).
إذاً إنّ حرب المواقع التي تجري من حينٍ إلى آخر بين قسد وداعش هي حرب كرٍ وفرٍ بانتظار القرار
هذه الحرب تؤدي إلى استنزافٍ تدريجي لقوة داعش المحدودة، وكذلك استنزاف لقوات سوريا الديمقراطية، التي بدأ قادتها يُحسون أنهم مجرد ذراعٍ عسكرية في صراعات أكبر منهم ومن أهدافهم
الأمريكي الأخير. هذا القرار الذي يكثّف استراتيجية الحل السياسي في سوريا، ويعطي الأولوية لمصالح الولايات المتحدة وتحالفها الدولي لن يبدأ قبل إنفاذ حزمة العقوبات الأمريكية على إيران في الأسبوع الأول من نوفمبر الجاري، وقبل البدء بعمليات وضغوطات كبيرة لخروج إيران من سوريا وبتر ذراعها اللبناني حزب الله.
لذلك يمكن القول إن الخاسرين الرئيسيين من حرب المواقع هم بالدرجة الأولى سكان المنطقة، والذين تطحنهم هذه الحرب، وكذلك فإن هذه الحرب تؤدي إلى استنزافٍ تدريجي لقوة داعش المحدودة، وكذلك استنزاف لقوات سوريا الديمقراطية، التي بدأ قادتها يُحسون أنهم مجرد ذراعٍ عسكرية في صراعات أكبر منهم ومن أهدافهم.
حرب المواقع ستنتهي مع الانتهاء من داعش ودورها ووجودها في معادلة الصراع السوري، ومع بدء عمليات تفكيك الوجود العسكري الإيراني والميليشياوي في سوريا. ولعلّ صار من الواضح أنّ حزمة العقوبات الأمريكية ضدّ إيران والعقوبات التي ستفرضها الولايات المتحدة ضد النظام الأسدي قريباً حسبما قال جيمس جيفري المسؤول عن الملف السوري في الإدارة الأمريكية ستكونان جزءاً من الاستراتيجية الأمريكية الجديدة حيال الصراع في سوريا، والتي ما تزال بحاجة إلى بلورة التعاون والتنسيق مع اللاعب الإقليمي الكبير " تركيا "، التي أعلنت منذ أيام على لسان رئيسها السيد رجب طيب أردوغان استعداد تركيا لعمليات واسعة ضد قوات سوريا الديمقراطية وعمودها الفقري " وحدات حماية الشعب الكردية " شمال سوريا وشرق الفرات.
الأمريكيون معنيون بهذه الحالة بالتضحية بذراع قسد العسكري لمصلحة كسب ودّ الدولة التركية ذات الوزن العسكري والاقتصادي والسياسي الحاسم في زعزعة ثبات الحلف الروسي البعيد حتى الآن عن التقاطع مع التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية.