حين كنَّا أطفالاً؛ كنا نترقب "التاجر السخني"، نسبة إلى مدينة السخنة، ليحضر "الجلو والشنان" كي تدعك الأمهات ملابسنا بهما، هذا زمان، ما قبل انتشار المنظفات الكيميائية وصابون الغار، بعد منتصف السبعينات في عموم سوريا، ولحقه انتشار شامبو "راني" مطلع الثمانينات، قبل أن يقبض على صاحب المعمل بسام خربوطلي ويودع السجن، حيث تسرّبت مفردة "شامبو" إلى المعجم السوري بصفتها علامة تمدّن. أدوات الاستحمام والتنظيف التي كانت تنتشر في الريف السوري (الجلو والشنان مثلاً) صديقة طفولتنا المبكرة، لم يسمع بها الكثير من أبناء المدن السورية.
كان حبل الغسيل طريق المخابرات الأميركية نحو أسامة بن لادن وفقاً لـ نيويورك تايمز. وطريقة سريعة لـ "ستيف كوميسار" كي يصبح مليونيراً عبر حيلة حبل الغسيل. وتقنية "حبل الغسيل" في مجال التدريب، تقوم على تعليق حبل بين نقطتين، ثم يطلب من المتدربين استخراج الأفكار الأساسية، لتصبح مادة تفاعلية بينهم.
كنت أنظر إلى نهاية الطريق السريعة، وكانت مشغولة بالتفاصيل، وبين اختلاف انشغالاتنا أضعنا لحظات جميلة كثيرة!
وقد أدهشني انتشار حبال الغسيل في عدد من أحياء الفاتح بإسطنبول، ورحتُ أراقب، بعينيْ طفل، كيف يُنْشَر الغسيل، وتدار الحبال بين الجارات. وأخذتُ أستذكر حكاية حبل الغسيل في سوريا، أحد الرموز الدالة على أناقة سيدة البيت، فيما كان فنان تشكيلي مشغولاً برسم أصابع النساء الطويلة، وهي تنشر الغسيل، ترتبه بأناقة. وحدها الأنثى، برقتها الغالبة، تشعر بحساسية اللباس تجاه منظفات الغسيل، فقد يبهت، أو ينتحر بتقطيع نفسه، أو يغيب كما تفعل الجوارب! أما اللون الأبيض فيرفض الألوان الأخرى، التي تركض إليه لتلوِّنه. أدركتُ كرجل شرقي، في وقت متأخر جداً، لماذا تصرُّ النساء على أن يكون الغسيل مرتباً على الحبال؟ كنت أنظر إلى نهاية الطريق السريعة، وكانت مشغولة بالتفاصيل، وبين اختلاف انشغالاتنا أضعنا لحظات جميلة كثيرة!
كثيرٌ من الوجوه التي تلتقيها في يومياتك، تشعر أنها، منذ فترة طويلة، لم تُغسَل، أو لم تستعمل الصابون المناسب، أو تكتفي بتمرير الماء والصابون وغسولات الوجه فحسب، لا تهتم بأن تتفتح مسامات الوجوه. تلتقي بكثير من الأشخاص على أمل أنهم اغتسلوا، أو غسلوا ماضيهم، لكنك تشعر أن هناك طبقات متراكمة لم تستطع إزالتها المنظفات، تتمنى أن يُخصّصوا يوماً محدداً كل أسبوع للغسيل، كما تفعل سيدات بيوت كثيرات، كي لا يحمل أولئك غسيلهم إلى أسبوع آخر، فيصعب التخلص منه، هناك أنواع من الصابون الروحي تغسل الأخطاء بحق الآخرين والأخريات!
يعلَّق عاشقٌ، في مكان ما، أشواقه، التي لم تصل إليها، على حبل غسيل، على أمل أن تهبّ الريح فتقطع الحبل، لتطير تلك الأشواق إليها، وليقل ابن سيرين ما يقوله في الحديث عن: "دلالات انقطاع حبل الغسيل في المنام"!
فجأة؛ تجد شخصاً له وزنه في ميدان ما، قد افتتح مطعماً، أو صار دلال بيوت، لم يكن هناك من طريقة لتبييض أموال هذا الشخص، أو ذاك إلا بهذا النوع من المشاريع، بل إن عدداً من فاسدي المنظمات يغسلون خرابهم بالاهتمام بقضايا يتمّ تسليط الضوء عليها عبر السوشال ميديا، أو من قبل مشهورين، في الوقت نفسه لم يرسل شيئاً لأخته في الداخل منذ سنوات!
هذا "قياديّ" بدأ يدرس في جامعة ما، يريد أن يغسل كسله القديم في البكالوريا، بشهادة جامعية، حسناً، تطوير المهارات والتعلم أمرٌ لا عمر محدد له، يجدر بكَ أن تشيد به، لكن مهلاً لماذا لمْ يختر جامعة لها سمعتها؟ بل سجَّل في جامعة "تعرج" على مستوى المدرسين والجودة؟ سيطوّع هذا "القيادي" سيارات منظمته لخدمة الأساتذة "المغسِّلين"، وستكون بطاقة بنك المؤسسة في خدمة الولائم، التي كشفت عن كرم غير معتاد. زملاؤه القدامى، الذين عايشوا مراهقته قالوا: إنه "لا يبول على أصبع المجروح بخلاً" كما يقول المثل! أما الأساتذة الذين لم يستجيبوا لولائمه، سيجد لهم حلاً، قد يكون بتقرير أمني لدى الجهات، التي وظفتهم، قد تطفّشهم خارج بلاد الأنصار!
فقَدَ كثيرٌ من السوريين مهنهم القديمة، بتنا نرى في بلاد اللجوء الجديدة ممثلاً أو أستاذاً جامعياً أو عضو مجلس شعب سابقاً قد غدا عامل توصيل، أو بياع فول، أو أن كاتبة دراما صارت سائقة باص! هذا اندماجٌ وتميزٌ ومرونةٌ لافتةٌ في الشخصية السورية، التي تتسم بقدرتها العالية على التكيف.
ثمة ميليشيات على الأرض السورية، ترتكب أبشع الجرائم سراً، ثم تقدم نفسها للإعلام أنها مع حقوق المرأة، أو أنها تؤمن بالرأي الآخر، أو تنشئ جمعية خيرية نسوية، الغسيل مهمتها الرئيسية!
هناك دول، اليوم، تحاول أن تغسل جرائمها، التي شهدها العالم كله، عبر غسيل رياضي وغسيل فني وسينمائي. في الوقت نفسه هناك رياضيون وفنانون، أصحاب مواقف، يرفضون أن يكونوا جزءاً من الغسيل الرياضي، أو الفني.
ثمة ميليشيات على الأرض السورية، ترتكب أبشع الجرائم سراً، ثم تقدم نفسها للإعلام أنها مع حقوق المرأة، أو أنها تؤمن بالرأي الآخر، أو تنشئ جمعية خيرية نسوية، الغسيل مهمتها الرئيسية!
هناك فنانون يغسلون إهمال جمهورهم لهم بوقوعهم على المسرح، أو حلاقة شعرهم، أو افتعال حادث سيارة، أو اكتشاف أنهم متدينون، دون سابق إنذار.
دون سابق إنذار، وجدت زوجته أنه صار كريماً معها، لغوياً ومعاشياً، كان بخيلاً في الكلام، حتى في أكثر اللحظات حميميّة، قالت له مرة: إنها تحبذ فكرة عمر أبو ريشة "المرأة تعشق من أذنيها"! في الوقت عينه أخذت سفرات العمل تزداد، وغيابه يطول، استيقظتْ من غرقها بكرمه، فوجدت أنه أصبح لديه "طفل" من زوجته الجديدة، لم تكن تعي جيداً أنه كان يغسل خطاياه الجديدة بكرم طارئ، بقيت صامتة، لأنها إنْ تحدثت، سيتوقف عن الغسيل، وقد ينتقل إلى مرحلة التنشيف! لا يعلم أحد أيّ شمس ستهبُّ على علاقتهما، أو أيّ غسيل، وسخ سينتشر خلف الجدران!
يقول عن نفسه: إنه اكتشف، أخيراً، أن رقبته يمكن أن تلتفت يمنة ويسرة. تردّ إحدى المولعات به، وبمحدثيْ النعمة عامة: يصرف بلا حساب، كريم، خدوم، يحب فعل الخير! هل من الضروري أن يكون الجميع "قدماء نعمة"؟ أما من تغييرات في البنى الاجتماعية والتراتبيات المالية، بعد كل هذه التحولات العالمية في مفهوم الاقتصاد والمال والثورات؟
أول سؤال يسأله الرجل برفقة ضيوف "البرندة" أو أرض الدار لعائلته: هل من غسيل؟ تركض المرأة لجمع غسيلها على عجل، من حق الغسالات وحدها رؤية الملابس الداخلية، أيادي الأمهات والنساء عامة لهنّ حكايات مع الغسيل لا تشبه حكايات الرجال مطلقاً. إذا اشتريتَ شقة أول ما تفكر به المرأة أين سينشر الغسيل، الذي ستجعل منه النساء لوحة، لا يحسُّ بجمالها كثير من الرجال!
كنت أمشي في أحياء دمشق أقرأ حبال الغسيل لأتعرَّف إلى مهن ساكني البيت، تلك شرفة عليها الكثير من بناطيل الجينز؛ مما يعني أنه غير موظف! وهذه الشرفة تنشر عليها "بدلات سفاري" مما يدل أن ربّ البيت يعمل في منظمة تابعة لحزب البعث أو مدرّس قومية على الأقل، تلك شرفةٌ لصبية مقبلة على الحياة، فيها الكثير من اللباس الملون. وهذه شرفة فيها ذكورية عالية تتباهى الأم بنشر اللباس الداخلي لأولادها!
كانت صديقتي تمشي في أزقة المدينة، تقرأ شرفاتها فوجدت لباس زوجها المسافر! وهناك صديقة أخرى عرفت بأنه متزوج من أخرى من غسيل السوشال ميديا، حيث ينشر السوريون أيامهم على حبال جدرانها!
آخر ما انضم إلى حبل الغسيل الكمامة، تلك شرفةٌ لامرأة، لا تثق كثيراً بمصانع الكمامات، وتهتم بأن يكون لون كمامتها مطابقاً للباسها!
+++
مستشرق، هولندي، أحبَّ صبية شرقية، رآها تنشر الغسيل، كتبَ:
أمشي في المدينة الكبيرة، بعد سنوات من فراقنا، أبحث عن ملابسك في الشرفات.
سأنتظر الريح القوية، التي تهزّ حبال غسيلك، ستقع قطعة منه، سأطرق بابك لأعيدها إليك!
جارتك ستقول لي: رحلتْ من هذه المدينة، بعد أن خلت من الرجل، الذي تبحث عنه!
سأسألها: لماذا تركتْ قطعاً من ملابسها على شرفتها؟
ستردُّ علي: لتخبركَ أنَّ الذين لا يأتون في الوقت المناسب، كأنهم لم يأتوا!
سأرسلُ لك مع جارتك: لا تصدّقي أن حبال الغسيل قد تقطعت، حين كان حملها ثقيلاً، إذ غبّت الملابس القطنية ماء كثيراً! الحبالُ تقطعت ألماً على متبتّل، تحت شرفتك، كمؤمن قديم!
يردّد: لا تشدّي على حبل علاقتنا بالغياب الطويل، كي لا تنقطع شرايين الأمل!