لطالما أُثير جدل معرفي وأكاديمي حول مفهوم (الحاسة السادسة) التي تعني: استشعار الأحداث المستقبلية بعيداً عن الحواس الخمس، والتي أضحت مرتبطة أيما ارتباط بعاطفة الأم وتعلُّقها العظيم بأبنائها؛ إذ إن الحبل السري الذي غذّى الجنين ظل محافظاً على سر التواصل بين الأم وأولادها حتى بعد انفصالهم الفيزيولوجي عنها؛ لذا ربط بعض علماء النفس بين الحاسة السادسة وعاطفة الأم، ومن دون الدخول في مآلات نفيها أو توكيدها أو المجازفة في الانخراط في جدل دياليكتيكي، فإننا نفضل تجاوزه إلى ما نعتقد أنه أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى ألا وهو (الحاسة السابعة)، التي تتعدى بإمكاناتها كل قدرات الحواس الخمس، وهي ملكة ينبغي على كلِّ لاجئٍ أن يتحلَّى بها إذا ما أراد أن يبقى متمسكاً بتلابيب الإحساس بالأمان، الذي قد يبدو للوهلة الأولى جزئياً أو متخيلاً، ولكنه متحقق بصورة ملاح يحاول جاهداً إبعاد مركبه عن الصخور والأمواج العاتية باحثاً عن تحقيق توازن شبه مستحيل بين رغبته في عيش كريم، وما يتعرض له من ضغوط مستمرة أسهم امتداد الكارثة السورية في تحميل اللاجئ أعباءً وتبعات لم تكن في الحسبان.
على أنَّ تصاعد مظاهر العنصرية ضد اللاجئين واطِّراد الحملات الإعلامية عبر توظيف كل الوسائل للتحريض عليهم وتحميلهم مسؤولية الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في البلدان المُضيفة، جعل اللاجئ معنيَّاً بالبحث عن حلول تنجيه من مستنقعات آسنة تعج بها الدول المضيفة، ولا سيما في ظل استخدام ورقة اللاجئين وسيلة للمساومات بين الدول وفق ميزان الربح والخسارة بعيداً عن كل المواثيق والأعراف الدولية المؤطِّرة لحقوقه وواجباته إزاء المجتمعات المُضيفة، فضلاً عن استخدام قضية اللاجئين في الاستحقاقات الداخلية، ولا سيما مع الهيمنة التي تمارسها وسائل التواصل الاجتماعي، التي أضحت إحدى أهم أدوات صناعة الرأي العام وتشكيله وتوجيهه؛ إذ غدت مرآةً صادقة تعبر عن مقدار الانحطاط الأخلاقي الذي وصلنا إليه، وهو أمر يناقض الأهداف المعلنة لإنشاء وسائل التواصل الاجتماعي، التي كان من أهم أهدافها خلق مساحات من الحوار والتواصل والتفاهم بين الأمم والشعوب المختلفة، بما يسهم في تسريع عجلة الحوار الحضاري، إلا أننا لمَّا نصل إلى تلك الغاية على الرغم من مرور أكثر من عقد على إنشائها، وهو أمر يفرض من جملة ما يفرضه أسئلة جوهرية تتصل بتحقيق الوعي بمعنى الإنسان وغاية وجوده في ظل انغماسه المتطرف في تقديس الأنا، وجعل الجماعة أو القومية التي ينتمي إليها بمنزلة فوق بشرية في سلوك يشي بعدم تجاوزنا لمرحلة القبيلة التي مرت بها البشرية في مسارها التطوري، مما يعني أننا نعيش مرحلة ارتكاسية أخلاقياً، على الرغم من التطور الهائل في وسائل التواصل، والإنتاج، وأنماط الاستهلاك غير المسبوقة، فضلاً عن الذكاء الصناعي الذي يحقق قفزات كبرى في تطوير أساليب العيش وتيسير وسائلها.
من متطلَّبات الحاسَّة السابعة ثمة عنصر جوهري يتمثَّل في امتلاك فراسة كافية، وقدرة فرويدية على تحليل سلوك الشخصيات من خلال تحليل لغة الجسد وإيماءات الوجه، بما يضمن للاجئ توقُّع ردَّات أفعال المُضيفين
إنّ الحياة العابسة التي نعيشها هذه الأيَّام تتطلَّب (سوبر لاجئ) بكل ما تعنيه هذه المقولة من معنى: لاجئاً خارقاً يمتلك حدَّة نظر تفوق قدرة زرقاء اليمامة؛ ليكشف مساحات أكبر من المعتاد، الأمر الذي يسمح للاجئ باتخاذ تدابير عاجلة إذا رأى ما يهدده، وعليه أن يتجاوز المنطق الاستدلالي الذي قامت عليه الفلسفة الإغريقية، وأن يفكِّر بطريقة تخالف قوانين العقل؛ لأنَّ ما يدور من حوله لا يخضع لمنطق التفكير العلمي أو الثوابت الإنسانية، ومن متطلَّبات الحاسَّة السابعة ثمة عنصر جوهري يتمثَّل في امتلاك فراسة كافية، وقدرة فرويدية على تحليل سلوك الشخصيات من خلال تحليل لغة الجسد وإيماءات الوجه، بما يضمن للاجئ توقُّع ردَّات أفعال المُضيفين، وما يصدر عنهم في المدى الذي يتحرك فيه من تصرفات أو أفعال مُتحلياً بأقصى درجات ضبط النفس، وعليه إذا ما مشى أن يحني عنقه بزاوية قائمة كي لا يخدش حياء الحجارة التي تطؤها قدمه، كما يفرض التفكير الأعوج الذي يعشش في عقول العنصريين على اللاجئ أن يمتلك خبرة أركولوجية تعينه على البحث في تاريخ الحجارة، والشوارع، والقلاع، لعله يستعيد حكايات من الزمن الغابر تخلو من مآسي اللجوء ومتاعبه، كما ينبغي عليه أن يتقن لغةً على الأقل خلا لغته الأم، ولا سيما في البلدان التي لا يتحدث مواطنوها اللغتين العربية والإنجليزية، ولا يُعفيه عدم إتقانه اللغات من فهم قوانين البلد وعادات أهله كي يقيسَ خطواته وكلماته وتصرفاته بمبضع الألم، وأن يمتلك حسَّاً رياضياً يحميه من الوقوع في فخ الإساءة غير المقصودة للمُضِيفين، والتي قد يكون من تبعاتها الترحيل القسري، ومن متطلبات (اللاجئ الخارق) امتلاك قدرة محامي الدفاع في الخطاب والإقناع؛ إذ إنَّ اللاجئ متهمُ وإن ثبتت براءته، وينبغي عليه أن يدافع عن نفسه متسلِّحاً بالكلمة التي تتلاشى قدرتها على التأثير؛ لأنها "تموت حين تُقالُ"، ولا ينبغي عليه أن يصبح عالم اجتماع أو مصلحاً اجتماعياً؛ لأنه مهما فعل فلن يغير من الصورة المشوهة المستقرة في أذهان البعض من المجتمعات المُضيفة، فالأفعال الجيدة أو التصرفات النبيلة التي يقوم بها بعض اللاجئين لها طاقة تأثيرية محدودة يتداولها اللاجئون في صفحات ومنتدياتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، في حين لا يلتفت إليها إعلام المُضيفين إلا بصورة عابرة لا تقوى على صد سهام النقد والإساءة التي تنهال عليه صباح مساء.
إنَّ حملات التحريض على الكراهية والعنصرية ضد اللاجئين ليست طارئة على التعاطي الاجتماعي مع الوافدين، ففي التاريخ الاستعماري نماذج كثيرة في تحثير الآخر وتشويه صورته، كما حدث إبان احتلال بريطانيا وفرنسا لأجزاء من أفريقيا، والهند، وأميركا الجنوبية، وكما حدث في أميركا إزاء الأميركيين من أصول أفريقية أو آسيوية، ولكن الطارئ في وقتنا هو القدرة التي تمتلكها وسائل التواصل الاجتماعي على صناعة أرشيف متنامٍ يستمدُّ قوته من صيحات التويتر وحملات التحريض، الأمر الذي ينبغي أن تتنبَّه إليه الحكومات عبر سن قوانين تجرِّم العنصرية والتحريض على الكراهية أو التشجيع على العنف، ولا سيما أنَّ قضية اللاجئين مسألة دولية تأثرت بسببها معظم دول العالم؛ إذ تشير إحصاءات الأمم المتحدة إلى وجود ما يزيد على مئة مليون لاجئ بسبب الحروب والصراعات، يعانون ظروفاً صعبة لا أفق لنهايتها لعدم وجود رغبة صادقة من المجتمع الدولي في وضع حد لحكايتهم المأساوية؛ إذ تقتصر سياسيات الدول على إدارة أزمة اللاجئين بما يخدم مصالحها، وليس العمل على إنهائها.
تقديم صورة واقعية عن اللاجئ بما فيها من سلبيات وإيجابيات، والابتعاد عن شيطنته وجعله متهماً لمجرد كونه لاجئاً، ومناهضة الحملات الشاذة التي تقدم معلومات غير حقيقية لتحقيق أهداف سياسية لهذه الفئة أو تلك
إن انتفاء حاجة اللاجئ لحاسة سابعة يحفظ بوساطتها حقه في الحياة يتطلب من الدول المُضيفة خطة واضحة المعالم للتعاطي مع مسألة اللاجئين، والتي يمكننا أن نجمل ملامحها في الآتي:
- تفعيل برامج إدماج اللاجئين بصورة حقيقة وفعَّالة بدل تنفيذها شكليَّا لتحصيل تمويل أممي أو دولي يحقق منافع اقتصادية للدول المضيفة في حين لا يفيد منها اللاجئ بالقدر المطلوب.
- تقديم صورة واقعية عن اللاجئ بما فيها من سلبيات وإيجابيات، والابتعاد عن شيطنته وجعله متهماً لمجرد كونه لاجئاً، ومناهضة الحملات الشاذة التي تقدم معلومات غير حقيقية لتحقيق أهداف سياسية لهذه الفئة أو تلك.
- إيجاد فرص اقتصادية عبر تمويل المشاريع الصغيرة، وتزويد اللاجئين بفرص التمكين الاقتصادي، التي تمثل إحدى أهم وسائل استمرار اللاجئ في مواجهة الصعاب، ولا سيما في ظل الأزمات الاقتصادية التي يعيشها العالم بأسره.
- تعزيز قيم التعايش في المجتمعات المُضيفة من خلال إدخال مواد تتصل بالتسامح والتعاطف مع المضطهدين والمظلومين والمتأثرين بالصراعات حول العالم.
وأخيراً، قد لا تبدو الصورة قاتمة إلى هذا الحد، ولكن لا بد من عمل دؤوب من الحكومات والمنظمات الدولية لإيجاد حلول دائمة تقوم بالدرجة الأولى على إيجاد حل ناجع ينهي مأساة اللاجئين في سوريا، واليمن، وليبيا، والسودان، وأفغانستان، وكل الدول التي تشهد حروباً وصراعات يدفع المدنيون ثمنها الأكبر.