الشيخ جودت سعيد مفكر سوري وداعية مذهب السلمية واللاعنف، درس جودت سعيد اللغة العربية في جامعة الأزهر، وأقام في مصر عدة سنوات من عام 1945 وحتى عام 1958، وهناك اطلع على الإنتاج المعرفي لأقطاب الفكر الإسلامي كالأفغاني ومحمد رشيد رضا والشيخ محمد عبده، وفي آخر سنة من إقامته تعرف فيها على كتاب لمالك بن نبي "شروط النهضة"، الذي شكل له نقطة تحول في حياته وفكره، لدرجة أنه قرأ الكتاب نحو أربعين مرة من شدة شغفه به، وبعد انقلاب حزب البعث في سوريا 1963 سافر الشيخ جودت إلى العديد مع الدول الإسلامية مع جماعة الدعوة والتبليغ، لينتهي إلى وضع خلاصة فكرية خطة مذهبه السياسي الجديد وهو مذهب ابن آدم الأول.
كتاب ابن آدم الأول
كان الشيخ جودت مقرباً من جماعة الإخوان المسلمين ومن الشيخ عصام العطار بالذات، لكنه ابتعد عن الجماعة في عام 1966، وعكف على تأليف باكورة أعماله الفكرية في منتصف الستينيات كتابه "مذهب ابن آدم الأول"، وهو كتاب يشرح فيه قوله تعالى: {لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك} وعرضه على الشيخ الألباني والشيخ محمد الحامد، حيث كان يحضر دروس الشيخ الألباني ويعارضه في تصحيحه لأحاديث الملاحم والفتن، التي تتحدث عن المهدي والعنف، فضاق به الشيخ الألباني ذرعاً وطرده من مجلسه، وكان سبب تأليف هذا الكتاب هو ما شاهده سعيد من عنف في مصر بين الحركة الإسلامية ونظام الرئيس جمال عبد الناصر ،وكأنه كان يتنبأ بأن هذا المشهد ربما يتكرر في سوريا.
في عام 2004 بدأت المنتديات السياسية نشاطها العلني في دمشق، تداعى عدد من السياسيين لكتابة بيان إعلان دمشق، ولما عرض البيان عليه وجده لا يخرج عما كان يطالب به من الحياة الديمقراطية، وإنهاء عهود الاستبداد والتغيير السياسي بطريقة سلمية.
المعارض السياسي الصلب في وجه الاستبداد
في عام 1965 كتب ضابط بعثي اسمه إبراهيم خلاصي مقالاً في مجلة "جيش الشعب" قال فيه: "إن الله والقرآن والنبي هي دمى محنطة يجب وضعها في متحف التاريخ"، فقام الشيخ جودت بتوصيل نسخة من المجلة للشيخ حسن حبنكة الميداني، الذي أخذته الغيرة وخطب الشيخ خطبة قوية يستنكر فيها المقال، فتطورت القضية إلى المواجهة مع نظام البعث في الجامع الأموي، والتي اعتقل بسببها سعيد، وهناك في السجن التقى مع الشيخ مروان حديد الذي كان معتقلاً على أثر حادثة جامع السلطان في حماة، وكان سريره تحت سرير الشيخ مروان الرمز الروحي لما سيعرف لاحقاً بتنظيم الطليعة المقاتلة، وجرت بينهما حوارات طويلة كان يسودها الود حول مذهبه اللاعنفي، الذي لم يوافقه عليه الشيخ مروان، والتقى هناك بالشيخ مصطفى الأعسر والذي كان يعتقد بضرورة مواجهة النظام البعثي بالقوة ، فاجتهد الشيخ جودت طوال تسعة أشهر ليهديه إلى مذهبه اللاعنف، وبعد جهد تسعة أشهر اقتنع مصطفى الأعسر وكان الشيخ مروان حديد يضحك ويقول: عند الامتحان سنرى يا شيخ جودت كيف ستكون النتيجة، وما هي إلا بضعة أيام حتى دخل حارس السجن فتكلم بكلمة مسيئة للمساجين، فما كان من الشيخ مصطفى الأعسر إلا أن قام إليه وتناوله بالضرب، لتذهب جهود الشيخ سدى ويضحك الشيخ مروان حديد من المواقف ، خرج الشيخ جودت من السجن بعد شهور وقرر الذهاب للعيش في قريته بئر العجم في الجولان بعد أن تحررت من الاحتلال الإسرائيلي، وآثر العزلة وانشغل بالزراعة وتربية النحل والمواشي ليأكل من كد يده، مدركاً أهمية الاستقلال المادي في حماية فكرته من التوظيف، وكان يعطي دروسه في مسجد بئر العجم في محافظة القنيطرة عن مذهبه وأفكاره.
الأفكار الأساسية في مذهب الشيخ جودت سعيد
كان مذهب الشيخ جودت يقوم على فكرتين:
- اعتناق مذهب اللاعنف من أجل التغيير السياسي؛ لأن للتغيير سننا فكرية واجتماعية راسخة لا يمكن تجاوزها بالعنف والسلاح.
- قول كلمة الحق فرض على كل مسلم ولو كان الثمن هو القتل.
وكان يشترط للجهاد شرطين وهما:
- شرط في المجاهد بأن يكون الجهاد تحت قيادة قائد مختار من الشعب برضاهم.
- وشرط في المجاهَد ضده بأن يقوم بإكراه الناس على اعتناق مذهب أو دين رغماً عنهم.
كان الشيخ جودت يعتقد أن الدول الكبرى أدركت أن دور الحروب في إنهاء الأزمات والمشكلات قد انتهى، وكان لإلقاء القنبلتين الذريتين دور كبير في هذا. ولكن يرغب الكبار في استمرار الحروب بين الصغار، بين القوى الصغيرة، لأن هذا يصب في مصلحة أولئك الكبار.
أما في نضاله السياسي فكان سعيد يرفع شعاره المعروف "لا للسرية لا للعنف لا للتنظيمات"، لم يكن الشيخ جودت يعتقد أن الحل على يد حركة التنويرين العرب كما في الغرب ،وإنما يكون الرشاد بمتابعة أحداث التاريخ والاعتبار بدروسه وسننه.
موقف جودت سعيد من النظام البعثي والثورة السورية
في عام 2004 بدأت المنتديات السياسية نشاطها العلني في دمشق، تداعى عدد من السياسيين لكتابة بيان إعلان دمشق، ولما عرض البيان عليه وجده لا يخرج عما كان يطالب به من الحياة الديمقراطية وإنهاء عهود الاستبداد والتغيير السياسي بطريقة سلمية.
ومنذ انطلاقة الثورة السورية أعلن الشيخ تأييده لها، وزار العديد من المدن السورية وزار درعا في بداية الأحداث، وألقى كلمة في مناسبة عزاء لأحد الشهداء الذين سقطوا على يد جيش النظام. وطلب من الثوار المتابعة في طريق التظاهر والحفاظ على السلمية وعدم التعرض لرجال الأمن والجيش أو مواجهتهم، لكن إجرام النظام السوري لم يدع للشعب السوري خياراً إلا المواجهة، لذلك لم تكن أفكار الشيخ جودت سعيد تلقى أثراً حتى في مسامع محبيه من أبناء داريا التي حملت الورد في وجه جيش النظام فرد عليها بالنار، وبعد وصول المواجهات لبلدته خرج الشيخ من سوريا واستقر في إسطنبول متمسكا بنهجه السلمي في التغيير والإصلاح، لكن دعوته لم تتحول إلى تيار واسع وبقيت محصورة في بعض الشخصيات المقربة منه. كان للشيخ العديد من التلاميذ اشتهر منهم بنته كوثر جودت سعيد وصهره خالص جلبي والدكتور لؤي صافي وأحمد طعمة عبد الأكرم السقا ورضوان زيادة.
واليوم يرحل عنا الشيخ وهو في عقده التاسع مهاجراً في منفاه إسطنبول، حيث لم يشفع له منهجه السلمي بأن يبقى آمناً في وطنه ولم تحمه معارضته السلمية من بطش النظام.
رغم أن أفكار الشيخ جودت لم تصمد أكثر من ستة أشهر في مختبر الثورة السورية، وبالرغم من الانتقادات الواسعة لأفكاره حتى من أقرب محبيه لكنه كان إضافة فكرية مهمة في تاريخ الفكر الإسلامي، ومفكراً متفرداً في موازنته للأمور وفهمه لسنن التغيير بناء على تجربته الطويلة، ومعارضاً صنديداً عنيداً في وجه الاستبداد والطغيان.