فجأة انقلَبَ موقفُ حزب الله من ترسيم الحدود.
صارَ الحزبُ الذي كان يجد نفسه غير معنيّ بترسيم الحدود الجنوبيّة، يُسوِّقُ "بطولةً" حاول قطفها في الـ100 متر الأخير من مسار المُفاوضات التي بدأت قبل 11 سنة.
طوال السّنوات الـ11، لم يكن حزب الله يجد نفسه معنيّاً بملف الترسيم. طالما أعلن الأمين العام للحزب حسن نصر الله أنه غير معنيّ بترسيم الحدود البحريّة الجنوبيّة لـ"اعتبارات خاصّة"، والكلّ يعلَم أنّها أسبابٌ دينيّة وإيديولوجيّة، عمادُها أنّ "الاعتراف بالحدود هو اعترافٌ بالوجود".
قبل سنة ونيّف من اليوم، وتحديداً في الخطاب الذي ألقاه نصر الله لمناسبة "يوم القدس العالميّ" بتاريخ 07 أيّار 2021 قال ما نصّه: "نحن كمقاومة لن نتدخل لا نتدخل ولن نتدخل في موضوع ترسيم الحدود... ولا أريد أن أدخل الآن في الأسباب ولأسباب متنوعة ومتعددة قلنا نحن كمقاومة لا نقول إنّ رأينا هذه هي الحدود أبدًا... لا نعطي رأينا، ونقول نحن ورقة بيضاء، دع بقية اللبنانيين يتحملون مسؤولية الحدود، وتحديد الحدود وترسيمها، الآن ما هي أسبابنا، أنا لا أريد أن أخوض فيها، هذا بحث يطول".
لا يحتاجُ كلام نصر الله إلى تفسير، بل لماذا عدَل عن موقفهِ "العقائديّ" هو الأمر الذي يحتاج إلى تفسير
لا يحتاجُ كلام نصر الله إلى تفسير، بل لماذا عدَل عن موقفهِ "العقائديّ" هو الأمر الذي يحتاج إلى تفسير. هناك أسباب عديدة أدّت إلى هذا التحوّل الكبير في الموقف الذي تدرّجَ خلال أشهرٍ قليلة من "إزالة إسرائيل من الوجود"، إلى ترسيم الحدود وتثبيت هذا الوجود.
أوّلها: دَفعَت الحرب الرّوسيّة - الأوكرانيّة الغرب إلى البحث عن مصادر بديلة للغاز الطّبيعيّ للقارّة الأوروبيّة بعيداً عن هيمنة فلاديمير بوتين وتحكّمه بمصير القارّة العجوز ومُستقبلها. وجَدَ الأميركيّون في حقول البحرِ المُتوسّط، وتحديداً في حقل كاريش الجاهز للاستخراج، والمياه الاقتصاديّة اللبنانيّة مصدراً جدّياً لاستجرار الغاز الطّبيعي إلى أوروبا.
ليسَ من الصّواب القول إنّ روسيا تستطيع أن تضغط على حزبِ الله لـ"تطيير اتفاق الترسيم". بطبيعة الحال لن يُعطي حزب الله روسيا هديّة كهذه وهي التي تفتح الأجواء السّوريّة للطيران الحربيّ الإسرائيليّ للإغارة على مواقع الحزب وقوافل السّلاح الإيرانيّ المُتجهة إلى قواعده في سوريا ولبنان.
من الصّواب القول إنّ حزبَ الله وجَدَ فرصةً سانحة ليضمن مصالحَ الغرب من جهة، ويُمسِكَ بمفاتيح مصادر الطّاقة من لبنان، ويُهدِّدَ مصدرها الإسرائيليّ، كورقة ضغط سيّاسيّة يستطيع الحزب أن يُساوِمَ الغربيين عبرها. هذا ما يُفسّر اختيار نصر الله النّائب السّابق نوّاف الموسوي ليتولّى زمام ملفّ الترسيم، كونه يتمتّع باتصالات عالية المُستوى مع الأوروبيين، وتحديداً فرنسا وبريطانيا. يُضافُ إلى ذلك شخصيّة الموسويّ الحادّة ودبلوماسيّته الجدّيّة.
ثانيها: يبحث الحزبُ عن "عنوانٍ جديد" يُغطّي به سلاحه. فالعناوين التي كانت قائمة بعد تحرير جنوب لبنان عام 2000، وحرب تمّوز 2006، ودخوله أتون الحرب السّوريّة لم تعد ذات فعاليّة. وجدَ ضالّته في قضيّة الترسيم، بل وجَدَ فيها "غطاءين" عوضاً عن الواحد.
- يريد حزب الله أن يقولَ للبنانيين إنّ سلاحه، وتحديداً المُسيّرات غير المُسلّحة التي حاول إطلاقها نحو حقل كاريش هي التي جاءَت باتفاقِ الترسيم، وبالتّالي فهو حاجة لبنانيّة.
- قد يجد حزب الله في عنوان "النّفط والغاز" حجّةً جاهزة لأن يقول للبنانيين إنه "قادر على حماية ثروات البلاد وضمان عدم التعدّي عليها". وهذه حجّة "طويلة الأمد".
ثالثها: أن يحاولَ التخلّص من الاتفاق مع صندوق النّقد الدّوليّ.
في خطاباته الأخيرة، كرّرَ نصر الله الكلام عمّا سمّاه "الأهميّة الاقتصاديّة للثروة النفطيّة والغازيّة" وحاول مراراً أن يسوّق للبنانيين أنّ الخلاص من الأزمة الاقتصاديّة والاستغناء عن الاقتراض هو استخراج الثّروة الكامنة في المياه اللبنانيّة.
يكمن السّرّ خلفَ كلام نصر الله عن هذه النّقطة هو رفضُ الحزب لشروط صندوق النّقد التي يعتبرها شروطاً أميركيّة لتضييق الخناق عليه، وأخطرها بالنّسبة إليه هي إغلاق معابر التهريب على طول الحدود مع سوريا
يكمن السّرّ خلفَ كلام نصر الله عن هذه النّقطة هو رفضُ الحزب لشروط صندوق النّقد التي يعتبرها شروطاً أميركيّة لتضييق الخناق عليه، وأخطرها بالنّسبة إليه هي إغلاق معابر التهريب على طول الحدود مع سوريا، وتقليص عدد العاملين في القطاع العام إلى النّصف، ما سيرتدّ سلباً على البيئة الحاضنة لحزب الله. هذا ما يُفسّر أيضاً المُماطلة اللبنانيّة الرّسميّة في التّوصّل إلى اتفاقٍ مع الصّندوق الدّوليّ.
رابعها: يعتقد حزب الله أنّ إنجاز ترسيم الحدود سيُخفّف من الضّغط الأميركيّ عليه وعلى لبنان. وبالتّالي يُحاول أن يقتنص فرصة فكّ الطّوق الأميركيّ وأن يكونَ هو المُبادر للتّشابك مع أميركا وليسَ الاشتباك معها.
خامسها: قطعَ نصر الله الطّريق على ترسيم الحدود البريّة عبر فصل "تلازم مساريْ الترسيم في البحر والبرّ"، على عكس ما جاء في اتفاق الإطار الذي أبرمه الرّئيس نبيه برّي مع الأميركيين في تشرين الأوّل 2020.
يهدفُ حزب الله عبر "فصل المساريْن" أن يقطع الطريق أمام حسم هويّة "مزارع شبعا"، وبالتّالي أمام أيّ محاولة أميركيّة لتبديد حجّة بقاء السّلاح في يد الحزب.
سادسها: يحاول حزب الله أن يقول للمجتمع الدّوليّ إنّه حاجة لضمان استقرار إمدادات الطّاقة وأمنها. وبالتّالي يُحاول الانخراط في اللعبة الدّوليّة بعد أن كانَ محصوراً على السّاحة المحليّة قبل أن يدخُلَ كلاعبٍ على السّاحة الإقليميّة.
سابعها: أن يضمن نوعاً من الاستقرار الاقتصاديّ للبنان، والاستقرار العسكريّ على الجبهة الجنوبيّة في حال انتهَت ولاية رئيس الجمهوريّة ميشال عون من دون انتخابِ رئيسٍ جديد وشغور منصب الرّئاسة الأولى. وهذا يُمكّنُ نصر الله من بحثِ ملفّ الرّئاسة بعيداً عن الضغوط، علماً أنّ اتفاقَ الترسيم يُعطي إشارة واضحة من حزبِ الله إلى أميركا عنوانه أنّ "التفاهم في الترسيم يُمكن أن ينسحِب على رئاسة الجمهوريّة".
ثامنها وآخرها: أن يقطِفَ الحزبُ في السّياسة قضيّة الترسيم لصالح فريقه السّياسيّ، إذ تولّى ملفّ الترسيم إلى جانب حزب الله رئيس مجلس النّوّاب نبيه برّي، ورئيس الجمهوريّة ميشال عون إلى جانب فريقه من المُستشارين ومن وراء السّتارة رئيس التيّار الوطنيّ الحرّ جبران باسيل.
كثيرة هي الأسباب التي دفَعت حزب الله إلى تغيير جذريّ في موقفه الإيديولوجيّ. فحركات الإسلام السّياسيّ بشقّيْه السّنيّ والشّيعيّ عادةً ما ترفضُ مبدأ الحدود الفاصلَة بين البلاد على اعتبارِ أنّها من نتائج الاستعمار الذي يهدفُ لتفتيت المنطقة الإسلاميّة... ولكن لترسيم الحدود سحرٌ كان أثره واضحاً وضوحَ الشّمس...