لا يمكن تجاهُل إيران، فهي دولةٌ فاعلة، إقليميًّا، لها مشروعٌ، وله أدواتُه، وحلفاؤه، من حزب الله، في لبنان، والحوثيِّين، في اليمن، وتتمتع بنفوذ واسع في العراق، وسوريا، وتربطها بحركات المقاومة في فلسطين روابط صمدت أمام أزمات، واختبارات لم تكن هيِّنة، كما، رأينا استمرارية العلاقة بينها، وبين حركة المقاومة الإسلامية، حماس، كبرى حركات المقاومة، في فلسطين، حين توتَّرت علاقة الأخيرة بنظام بشار الأسد، على خلفية ثورة الشعب السوري، ضدَّه، ولم تكن تلك المفارقة جانبية في حسابات طهران؛ لأنها اقتضت تعزيز القوى الهادفة إلى التخلُّص من نظام حليف، (مع غير قليل من التحفُّظ في استحقاق تلك العلاقة درجةَ التحالف المتكافئ) بالغ الأهمية؛ من الناحية الاستراتيجية لإيران، لكن قادة إيران آثَروا التغاضي، في الظاهر، على الأقل، أو تفهُّم تلك الانزياحة الحمساوية، بذلك الاصطفاف المُحرِج؛ ما يشي ببراغماتية، حاكِمة، تستند إلى إدراك أهمية الاحتفاظ بعلاقة مستمرة مع حركة حماس، ومع فلسطين.
وحتى حلفاؤها الأكثر رسوخًا، من حزب الله إلى الحوثيين، أُرِيد لهم الحفاظُ على صلةٍ مع قضية فلسطين، مع أن الهدف من إنشاء كلٍّ منهما لم يكن فلسطين، إذ صُلْب انهماكهما، الجِدِّي، في المنطقة العربية، ليكونا جسرين للنفوذ الإيراني، وأوراق مساومة لها، وقت الحاجة.
والسؤال: هل معاداة دولة الاحتلال، (هذا إن صحّ أن توصف العلاقة بالعداء المبدئي)، يُعَدُّ سببًا كافيًا لأفضليةٍ ما تمنحها الشعوبُ العربية والإسلامية، لإيران؟ هل مجرّد العداء، أو التناقض، يُكسِب إيران أفضلية وجاذبية؟
الموضوع له بعد عاطفي واستراتيجي؛ إذ تحت هول الإرهاب الصهيوني الاحتلالي المزمن، عبْر أجيال العرب والمسلمين، ومساسها الدائم بالمقدَّسات في فلسطين، وكرامة العرب، والمسلمين، وتهديدها الأمن القومي العربي برمّته، كلُّ ذلك يدفع إلى البحث عن أيّ نصير، لمواجهته، ولا سيّما مع هذا التخاذُل العربي الرسمي، الذي لا يتزعزع.
هل يمكن القفز عن حقيقة أن تلك المكاسب المظنونة ستكون إيرانية، أولًا، وأخيرًا، وليست هدية مجانيَّة للشعب الفلسطيني، والشعوب العربية والإسلامية؟
وقبلًا، كان الاحتفاء بالاتحاد السوفيتي، والتعويل عليه، سببًا للتغاضي عن أيديولوجيته (وحتى علاقاته بدولة الاحتلال) التي لم تكن مقبولة على سائر المراهنين عليه؛ إذ اقتصر الولاء المبدئي على الأحزاب الشيوعية والاشتراكية.
ولو أتينا هذه المسألة من الآخِر: لو أن المستبعَد، أو التمنيّات، تحققت، وأقدمت إيران على انخراط مباشر في الصراع، ضد إسرائيل، هل من مكاسب مضمونة لنا، وباقية؟ وهل يمكن القفز عن حقيقة أن تلك المكاسب المظنونة ستكون إيرانية، أولًا، وأخيرًا، وليست هدية مجانيَّة للشعب الفلسطيني، والشعوب العربية والإسلامية؟
هذا في ظل العقيدة السياسية الإيرانية المعلَنة عن طبيعة دولة إيران، ومنطلقاتها، وحدود مصالحها الحيوية؛ أنها إيرانية، فقط؛ لتنتقل فلسطين، (على فرَض تحقُّق ذلك) من احتلال أجنبي، همجي، إلى الخضوع تحت سلطةِ دولةٍ مغايِرة، وأجنبية، أيضًا، وهذا التغايُر ليس من النوع السطحي، أو الثانوي، أو العابر، ولا يقتصر على وجه واحد، ديني، مذهبيّ، طائفي، مُسيَّس، ولكنه تغايُر قومي، فارسي، طامع، واستحواذي.
هنا ندخل في المفاضلة بين احتلالين، أو نوعين من الاستلاب والتغلُّب، وبعيدًا عن التنظير، إلى الواقع الماثل، في البلاد التي دخلتها إيران، عبْر حلفائها، أو بنفسها، كما في العراق، وفي سوريا، وفي لبنان، وفي اليمن، ما حال تلك البلاد، أوطانًا، وشعوبًا، ومقدَّرات؟
ولنأخذ مثالًا طازَجًا على الفجاجة الإيرانية، والانتهازية غير الذكيَّة، حين حاولت استثمار المعركة العظيمة الدائرة في غزة، والبالغة الحساسية، لحماس وفلسطين، وحاجة حماس إلى تعظيم التضامُن العالمي والإسلامي والعربي والفلسطيني، هنا جاء المتحدِّث باسم الحرس الثوري، رمضان شريف، وادَّعى أنَّ عملية طوفان الأقصى كانت ثأرًا لمقتل، قائد الحرس الثوري، قاسم سليماني!
ولِقياس الغائب على الشاهد، نستذكر مساعي هذا الاستحواذ في سوريا، في غير موقع، ومطامع إيران في ثروات البلد، وتسابُقها وروسيا عليها، كما، مثلا، لا حصرًا، عام 2018، عندما تقاتلا؛ من أجل السيطرة على احتياطيات الفوسفات في البلاد، إلى جانب نشاط إيران الواسع والملحوظ في شراء العقارات (ولا سيما في دمشق العاصمة؛ حيث الطابع السيادي الأبرز، وَفق المفترَض، سياديًّا، وطبوغرافيًّا، للدولة، وللناس) وتملُّك الأراضي الزراعية، هذا فضلًا عن جهودها المنظَّمة في نشر التشيُّع؛ أداةً من أدوات السيطرة الاجتماعية على السوريين، كلُّ ذلك، يقع باستغلال مستفِزٍّ لضعف الدولة والنظام، وأثمانًا تراها مستحقة؛ مقابل المساهمة في حماية بقاء بشار الأسد، ثم تُوِّجت الهيمنة الإيرانية، أخيرًا، في شهر مايو/ أيار، من العام الجاري، بمذكِّرة تفاهُم للتعاون الاستراتيجي الشامل، طويل الأمد، تشمل النفط والسِّكَك الحديدية، والزراعة، ومجالات أخرى، وقَّعها الأسد مع الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، أثناء زيارة الأخير لدمشق. هذه المذكِّرة المرجَّح أنْ تزيد هيمنة إيران، وتعزِّز التبعية السورية لها، وَفْق المستشار الاقتصادي السوري، أسامة قاضي؛ كونها ستُدرَج ضمن الديون المدرَجة على سوريا، باسم خطوط الائتمان.
وكذا ظهر الاستحواذ الإيراني، جليَّا، في العراق، كما مثلًا، بالطمَع في مياهه التي هو في أمسِّ الحاجة إليها، إذ سبق أن اعتبر مسؤولون عراقيون تصرُّفات طهران، حين قطعت بالكامل المياه عن نهر ديالى مخالفةً للأعراف والمواثيق الدولية، وأهمُّها اتفاقية عام 1975، وحذَّر مسؤولون عراقيون، حينها، من أنَّ استمرار انقطاع الواردات المائية عن العراق، ربما يؤدِّي إلى هجرة قسرية من مناطق جنوبيِّ العراق، لا سيما ضمن مناطق الأهوار المهدَّدة بالجفاف، هذا فضلًا عن تغوُّلها على الدولة والنظام الحاكم في بغداد.
ثم كانت الاحتجاجات العراقية الواسعة في جنوبي العراق، سبتمبر/ أيلول، 2018 أوضح علامة على الظلم الذي أحسَّ به عراقيون، حين حُرِمُوا حتى ماء الشرب، فضلًا عن الخبز والكهرباء، وأحسُّوا عِيانًا، إيران قوةً أجنبية مهيمنة أقرب إلى الاحتلال، ترعى حكومةً عراقية ينهشها الفساد؛ بالكاد تقوى على حلولٍ ترقيعية، فردَّدوا، غاضبين، شعاراتٍ تطالب بطرْد إيران من العراق، ولم يكونوا، بالتأكيد، مدفوعين بدافع طائفي، لأنهم كانوا من الشيعة.
ولا ننسى أن كلّ ذلك النفوذ والتغلغل الإيراني في مفاصل الدولة العراقية إنما جاء ثمرةً للتعاون الإيراني مع أميركا، حين أسقطت نظام صدام حسين، واحتلَّت العراق، 2003.
أما في لبنان فقط ابتلع حزبُ الله الذي كشف على نحو أوضح ولاءَه الخالص، والمقدَّم لإيران، ابتلع هذا الحزبُ المدعومُ والمضخَّم، إيرانيًّا، الدولةَ اللبنانية، واستحوذ على أهمِّ القرارات، وكان يوم 7 أيار، من عام 2008، وما رافقه من عمليات قتْلٍ وحرْقِ وخطْف، ارتكبها حزب الله، ومَنْ حالفه، علامةً فارقةً، ودالَّة على أسلوبه، في فرْض ما يريد، مِن مصالح، بالقوة، في تجاوُز واضح لأيّ دورٍ للدولة، أو للأساليب السِّلْمية والمدنية.
إيران تستخدم حلفاء لها، وتُحَكِّمهم في الدول والبلاد، ليس كطرف سياسيٍّ يتنافس، ولكن بقوة السلاح، والتفوق التعسُّفي الفوقي، تحت شعارات متعالية عن الشرف والوطنية والمقاومة
هذا، ولا تقتصر الأدوات الإيرانية في السيطرة والاستلحاق على الاقتصادية والاجتماعية والسياسية منها، إذ تحضر الأداة الدموية بقوَّة، كما ظهر جليًّا في كلٍّ من العراق، ودعمها المليشيات الطائفية الإجرامية، وفي سوريا، ومشاركتها، عبْر تواجدها العسكري المباشر في سفك دم السوريين، وتهجيرهم، وكذلك عبْر ما يعانيه اللبنانيون من ترهيب حزب الله، وعبْر عن دعمها العسكري الحوثيين في اليمن.
إن إيران تستخدم حلفاء لها، وتُحَكِّمهم في الدول والبلاد، ليس كطرف سياسيٍّ يتنافس، ولكن بقوة السلاح، والتفوق التعسُّفي الفوقي، تحت شعارات متعالية عن الشرف والوطنية والمقاومة... دولةٌ كهذه تقيس سياساتها بمقياس المكاسب والأرباح، تتقدَّم على مصالح جامعة، مصيرية، أمام تهديدات أجنبية، كدولة الاحتلال، وأميركا، ليس مِن شأنها أن تُقدِم على أفعال عظيمة، عند الضرورة، وهي تُحْجِم وقت ما تمس الحاجة إليها، وقت الحسم، كما تُحيِّد نفسها، الآن، وقت الإبادة التي يتعرَّض لها أهل غزة، وحتى لو استهداف المسجد الأقصى والقدس، في يوم القدس العالمي!