ينطلق مرتضى مطهري في فلسفته لختم النبوة من الفكرة التالية: "المجتمع البشري كالفرد يمر بمرحلة الطفولة فالنمو فالمراهقة فالبلوغ [...]، وعندما تصل البشرية مرحلة البلوغ والعقل الكامل مرحلة النضج وتفتّق الطاقات والقابليات إذ تصبح قادرة على تقبّل القوانين التي هي أسس ومبادئ نظامها الاجتماعي والفردي فلا بدّ من إبلاغها وتعليمها، ويقال لها عندئذ إنّ هذا هو الوحي التام الكامل الذي لا بدّ له من هداية الناس وتعليمهم، وذلك أنها قد بلغت تلك المرحلة التي تشعر فيها أنّ كل ما تحتاجه عن طريق الوحي وكل ما ينبغي أن يُقال لها وتطبّقه أُبلغت به، وما عليها إلا المحافظة عليه وتكييف حياتها معه" (انظر: كتاب الإسلام ومتطلبات العصر، ص: ٢٢٥).
يمسك مطهري برأس خيط هذه الفكرة من محمد إقبال، ولكنه يمضي بها في غير الوجهة التي كان إقبال يرنو إليها إذ يقول: "في طفولة البشرية تتطور القوة الروحانية إلى ما أسميه (الوعي النبوي)، وهو وسيلة للاقتصاد في التفكير الفردي والاختيار الشخصي، وذلك بتزويد الناس بأحكام واختيارات وأساليب للعمل اُعدّت من قبل، ولكن الوجود أخذ بمولد العقل وظهور ملكة النقد والتمحيص"، فـ "مولد الإسلام هو مولد العقل الاستدلالي" (انظر: كتاب تجديد الفكر الديني في الإسلام. ص: ١٤٩). وعلى الرغم من أن كلام مطهري يبدو كأنه اقتباس من إقبال، وعلى الرغم من أنه يستشهد بكلامه عدة مرات فإن الخلاف بين فهميهما لطبيعة (ختم النبوة) ولوظيفة هذا الختم هو خلاف جوهري وكبير، ولكن ليس هدف المقال الحديث عنهما والمقارنة بينهما، لذلك نكتفي بهذه الإشارة.
وفي تنويع على تقريب هذه الفكرة نفسها يضرب مطهري عدة أمثلة منها: "يمكننا تشبيه البشرية في معاصرتها للنبوات المختلفة بالطفل الذي من شأنه تمزيق الكتب وعدم المحافظة عليها [...] فالبشرية في المراحل السابقة كانت غير قادرة على حفظ الكتب السماوية، بل مزقتها وأتلفتها وضيعتها، [...] ولكن القرآن نزل في وقت بلغت فيه البشرية نضجها ولقد لاحظنا حقاً أنها وصلت مرحلة من الوعي حافظت فيه على القرآن" (انظر: كتاب الإسلام ومتطلبات العصر، ص: ٢٢٥)، ومن هذه الأمثلة قوله أيضاً: "البشر في مسيرهم التكاملي كالقافلة التي تتحرك في طريق معين نحو مقصد معلوم لكنها لا تعرف الطريق فتصادف في كل فترة شخصاً يعرف الطريق، وبعد أن تستدل منه عليه تطوي من الطريق عشرات الكيلو مترات حتى تصل مكاناً تحتاج فيه مجدداً إلى دليل جديد، وبعد أن تأخذ توجيهات منه يُضاء أمامها أفق جديد فتطوى عشرات أخرى من الكيلو مترات بما أخذته من توجيهات وهكذا حتى تخلّق لديها تدريجياً قابلية أكبر في التعلم، فتصل إلى شخص تأخذ منه (الخارطة الشاملة) فتستغني دوماً بتلك الخارطة عن دليل جديد" (انظر كتاب ختم النبوة، ص: ١٨ و١٩).
لسنا هنا في صدد مناقشة هذه الأمثلة بحد ذاتها، ومدى ملاءمتها وإحكامها! ولكننا سنشير إلى تناقض لم يتنبه له مطهري ولا بقية المفكرين المسلمين الذين تبنّوا هذا النوع من التفسير وضربوا له أمثلة مشابهة، ووجه التناقض هو العزوف عن (فلسفة التاريخ الدينية) لشرح قضية (ختم النبوة)، وتبني فلسفة التاريخ الوضعية التي لا تمتّ إلى الرؤية الدينية بأية صلة!
ففهم مطهري لتطوّر الإنسانية مستلٌّ من الرؤية الوضعية التي تتحدث عن مراحل التطوّر البشري الذي يشبه تطور الإنسان: من الضعف إلى القوة، ومن الجهل إلى العلم، ومن الطفولة إلى البلوغ واشتداد الساعد، ويعبّر عن هذه الرؤية، على سبيل المثال لا الحصر، جيمس فريزر في قوله: إنّ التطور العقلي البشري مرّ بثلاثة مراحل: مرحلة السحر البدائي، ومرحلة الدين، ومرحلة العلم، أو أوغست كونت الذي صاغ (قانون الأطوار الثلاثة) وحدّد فيها مراحل تطور الفكر الإنساني، وهذه الأطوار هي: الطور اللاهوتي، والطور الميتافيزيقي، والطور الوضعي! ففي الطور اللاهوتي يرد الإنسان كلّ الظواهر من حياة ونموّ وموت ومطر ورعد وزلازل وبراكين إلى أسباب إلهية خارقة للطبيعة، وفي الطور الميتافيزيقي يستبدل الإنسان بالعلل الخارقة للطبيعة قوىً مجردة يتصور أنّها قادرة بنفسها على إحداث كل الظواهر المشاهَدة، وفي الطور الوضعي يكتفي الإنسان بالمعرفة النسبية وينبذ تجريدات الميتافيزيقيا.
أما الرؤية الدينية فهي على العكس! إذا ترى أن مسيرة الإنسانية المطّردة هي مسيرة من النور إلى الظلمة، من الروحانية إلى المادية، من المعارف الإلهية إلى المعارف الأرضية، من النوع إلى الكم، وأنّنا كلما امتد بنا الزمن ابتعدنا عن مصدر النور الأول وغرقنا في الظلام، وأنّ اللحظة الراهنة هي الأكثر ظلمة مما سبقها، وأنّ التي تليها ستكون مظلمة أكثر، ومن هنا فطور الطفولة البشرية هو أرقى من طور بلوغها واشتدادها، ولعل خير من شرح وبيّن هذه القضية بالذات الفيلسوف الفرنسي المسلم رينيه غينون في كتابيه: (أزمة العالم الحديث)، و(هيمنة الكم وعلامات آخر الزمان) الذي استعان بكل التقاليد الدينية ليقرّب لنا فلسفة التاريخ دينياً، متوسلاً التقليد الهندوسي، والتقليد الديني الغربي القديم، وبقية التقاليد الدينية، ويحدّثنا غينون أن الدورة الإنسانية تنقسم إلى أربعة عصور: العصر الذهبي، والعصر الفضي، والعصر البرونزي، والعصر الحديدي، وأننا نعيش اليوم في العصر الحديدي الذي يُسمى في العقيدة الهندوسية (كالي يوجا) أو (العصر المظلم)!
إنّ مسيرة الإنسانية، بحسب فلسفة التاريخ الدينية، هي مسيرة ابتعاد عن المبدأ، وكل ابتعاد عنه هو سقوط وانحطاط وفوضى! فوضى في المنظومتين الروحية والاجتماعية! وهذا ما عبّر عنه الحديث النبوي الذي يرويه البخاري: "لا يأتي زمان إلا والذي بعده شرٌ منه، حتى تلقوا ربكم"، وأكّده الحديث الذي يرويه مسلم: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس".
وقد فهم خزّان المعارف الدينية الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي فلسفة التاريخ الدينية فهماً منبثقاً من هذه المعارف، ومتلائماً معها، فضرب لنا في فصوصه مثالاً وفياً ذكياً هو على النقيض تماماً من مثال مرتضى مطهري، على الرغم من أنه وافقه في تشبيه مراحل الإنسانية بمراحل الإنسان:
"ألا ترى الطفل يفعل في الكبير بالخاصية فينزّل الكبير من رياسته إليه، فيلاعبه الكبير ويزقزق له، ويظهر له بعقله، فهو تحت تسخيره وهو لا يشعر، ثم يشغله بتربيته وحمايته وتفقّد مصالحه وتأنيسه حتى لا يضيق صدره. هذا كله من فعل الصغير بالكبير، وذلك لقوة المقام، فإن الصغير حديث عهد بربه، لأنّه حديث التكوين، والكبير أبعد عنه، فمن كان من الله أقرب سخّر من كان من الله أبعد، كخواصّ الملك للقرب منه يسخّرون الأبعدين" (انظر: فصوص الحكم، ص: ١٩٧) (١).
فالإنسانية كانت في مراحلها الأولى حديثة العهد بربها، شديدة القرب منه، لأنّها حديثة التكوين، وهذا ما يعطيها ميزة وشرفاً ومكانة ورفعة، كميزة القريب من الملك، ومع تقدمها بالعمر تبتعد وتنأى وتفقد ميزتها ومكانتها.
إذن نحن أمام رؤيتين وفلسفتين وتصورين متقابلين، لا يمكن الجمع بينهما، ولا إيجاد مشتركات أو أياد تربطهما! والسؤال المنطقي الذي يجب طرحه هنا: هل يجوز لمطهري وهو يشرح قضية (ختم النبوة) من منطلق ديني إيماني أن يتكئ على فلسفة التاريخ الوضعية المادية؟ ألا يجدر به وبرفقائه المفكرين المسلمين أن يحرّروا فلسفة التاريخ أولاً، ويحكموا نظرتهم إليها بما يتوافق مع معطيات الدين نفسه؟ وأن يخبرونا هل هذه الرؤية لفلسفة التاريخ من منظور الدين هي الرؤية الوحيدة؟ وهل يمكن أن نحرّر فلسفةً دينية للتاريخ يمكن أن تستوعب المنظور الوضعي، أو يمكن أن تأخذ نتائجه بعين الاعتبار عن وعي وفهم؟! حتى يكون حديثنا عن ختم النبوة أكثر معقولية وحذاقة، وإذا لم نوفّق إلى ذلك فيجب علينا أن نبحث عن مداخل أخرى في هذا الحديث دفعاً للتناقض وتحاشياً لعدم الاتساق والانسجام.
أما تناقض فكرة (ختم النبوة) مع الإيمان المذهبي لمطهري فنعرضها في الجزء الأخير القادم.
هوامش:
- . أنا مدين بمعرفة نص ابن عربي للدكتور أسامة شفيع السيد مترجم كتاب (أزمة العالم المعاصر).